بالنذر ليس واجباً ابتدائيّاً مجعولاً من قبل الشريعة المقدّسة على المكلّفين نظير وجوب الصلاة والصيام وأمثالهما ، وإنّما هو واجب إمضائي ، بمعنى أنّه إلزام من الله تعالى بما التزم المكلّف على نفسه بالقيام بشيء لله تعالى ، نظير باب العقود فإنّ البائع يلتزم على نفسه تمليك ماله للمشتري والشارع المقدّس يمضي التزامه ويلزمه بالوفاء بالتزامه ، فالعمل الّذي يلتزم به الناذر لله تعالى لا بدّ أن يكون قابلاً للإضافة إليه سبحانه ومرتبطاً به نحو ارتباط ، ومن هنا اعتبروا الرّجحان في متعلّق النذر ، وإلّا لو كان خالياً عن الرّجحان لم يكن قابلاً للإضافة إليه تعالى ، كنذر المباحات الأصليّة الّتي لا رجحان فيها ولا ترتبط به جلّ اسمه ، ولذا عبّر بعضهم عن ذلك بأن لا يكون النذر محلّلاً للحرام وبالعكس ، مع أنّ هذا لم يرد في النذر وإنّما ورد في الشرط. والحاصل : لا بدّ أن يكون العمل المنذور الملتزم به على نفسه راجحاً في نفسه وقابلاً للإضافة إليه تعالى ، وإلّا فلا ينعقد النذر.
والنتيجة : أنّ كلّ عمل استلزم ترك واجب أو فعل محرم ، لا يمكن استناده وإضافته إلى الله تعالى ، فلا تشمله أدلّة وجوب الوفاء بالنذر ، لقصور دليل الإمضاء لمثل هذه الموارد فينحل النذر فيها ، فلا يصل الأمر إلى التزاحم فضلاً عن أن يرفع النذر موضوع الاستطاعة.
فظهر ممّا ذكرنا أنّ وجوب الحجّ مطلق غير مشروط بشيء سوى الاستطاعة المفسّرة في النصوص بأُمور خاصّة ، وأمّا القدرة الشرعيّة المصطلحة فغير مأخوذة فيه ، بخلاف النذر فإنّه مشروط بأن لا يكون محلّلاً للحرام ومحرماً للحلال ومستلزماً لترك واجب أو إتيان محرم ، وعليه فلا يقع التزاحم بين النذر والحجّ أصلاً.
ويؤكّد ما ذكرناه : أنّه لو صحّ النذر وتقدّم على الحجّ لأمكن الاحتيال لسقوط الحجّ وتفويته بنذر أيّ أمر راجح يستلزم ترك الحجّ ، ولو بنذر إتيان ركعتين من الصلاة في مسجد بلده يوم عرفة أو قراءة سورة معيّنة في المسجد الفلاني في يوم عرفة ونحو ذلك ، وهذا مقطوع البطلان فإنّ الحجّ ممّا بني عليه الإسلام فكيف يمكن الالتزام بسقوطه بأمثال هذه الأُمور.