توضيح المقام : أنّه لا ريب في استقرار بناء المخالفين على ترك هذه السنّة عملاً والتجنّب عنها خارجاً ، وإن أذعن بعضهم بها إجمالاً واعترف بشرعيتها في صلاة الفجر كما يظهر ذلك من صحيحة البزنطي المتقدِّمة (١). إذن فالنصوص المانعة على اختلاف ألسنتها محمولة على التقيّة ، لا بمعنى الاتقاء من الرواة والسائلين ، كيف وجلّهم لولا كلّهم من أصحابهم وخواصّهم ، بل حملة أسرارهم نظراء زرارة ومحمّد بن مسلم وأضرابهما ، بل حفاظاً عليهم وحماية للحمى وصيانة لهم ، مخافة الوقوع في مخالفة التقيّة ولو أحياناً ومن حيث لا يشعرون. ومن ثمّ كانوا عليهمالسلام يقتصرون على بيان ما هو الأهم والأفضل ، فنهى في صحيحة يونس بن يعقوب المتقدِّمة (٢) عن القنوت إلّا في الفجر ، لكونه في صلاة الفجر أهم ، وخصّت هي وصلاة المغرب بالذكر في صحيحة الأشعري المتقدِّمة (٣) لكونه فيهما أفضل من سائر الصلوات الخمس ، وورد الأمر به في الصلوات الجهرية خاصّة لكونه فيها أفضل من غيرها.
وهذا كما ترى أقوى شاهد على أنّ القنوت في حدّ نفسه لم يكن واجباً وإلّا لأمروا به بقول مطلق إلّا في مواضع التقيّة كغيره من الواجبات المنافية لها كالمسح على الخفين والوضوء منكوساً ونحوهما. وهذا بخلاف ما لو كان مستحبّاً فإنّه قد يحسن ترك هذا المستحب حذراً عن الوقوع ولو أحياناً في ورطة التقيّة.
وعليه فالجمع بين شتات الأخبار يستدعي الحمل على اختلاف مراتب الاستحباب الموجب للاهتمام بمراعاة التقيّة تارة وعدمه اخرى حسبما عرفت.
فاتّضح من جميع ما تقدّم : أنّ الأقوى ما عليه المشهور من استحباب القنوت في عامّة الصلوات ، وإن كان الاستحباب في بعضها آكد منه في البعض الآخر.
__________________
(١) في ص ٣٦٥.
(٢) ، (٣) في ص ٣٦٣.