وكأنّ أصحاب هذا التقريب جعلوا الاضطرار العقلي إلى ترك النجس كالاضطرار العقلي إلى ارتكابه ، فكما لا ينجِّز العلم الإجمالي مع الاضطرار إلى ارتكاب طرفٍ معيَّنٍ منه ـ على ما مرّ في الحالة الثانية ـ كذلك لا ينجّز مع الاضطرار العقلي إلى تركه ؛ لأنّ التكليف مشروط بالقدرة ، وكلّ من الاضطرارين يساوق انتفاء القدرة ، فلا يكون التكليف ثابتاً على كلّ تقدير.
والتحقيق : أنّ الاضطرارين يتّفقان في نقطةٍ ويختلفان في اخرى ، فهما يتّفقان في عدم صحة توجّه النهي والزجر معهما ، فكما لا يصحّ أن يزجر المضطرّ إلى شرب المائع عن شربه كذلك لا يصحّ أن يزجر عنه من لا يقدر على شربه ، وهذا يعني أنّه لا علمَ إجماليٌّ بالنهي في كلتا الحالتين.
ولكنّهما يختلفان بلحاظ مبادئ النهي من المفسدة والمبغوضية ، فإنّ الاضطرار إلى الفعل يشكِّل حصّةً من وجود الفعل مغايرةً للحصّة التي تصدر من المكلف بمحض اختياره ، فيمكن أن يفترض أنّ الحصّة الواقعة عن اضطرارٍ كما لا نهي عنها لا مفسدة ولا مبغوضية فيها ، وإنمّا المفسدة والمبغوضية في الحصّة الاخرى.
وأمّا الاضطرار إلى ترك الفعل والعجز عن ارتكابه فلا يشكِّل حصّةً خاصّةً من وجود الفعل على النحو المذكور ، فلا معنى لافتراض أنّ الفعل غير (١) المقدور للمكلف ليس واجداً لمبادئ الحرمة ، وأ نّه لا مفسدة فيه ولا مبغوضية ، إذ من الواضح أنّ فرض وجوده مساوق لوقوع المفسدة وتحقّق المبغوض ، فكم فرق بين من هو مضطرّ إلى أكل لحم الخنزير لحفظ حياته ومن هو عاجز عن أكله لوجوده في مكانٍ بعيدٍ عنه؟ فأكل لحم الخنزير على اضطرارٍ اليه قد لا يكون فيه
__________________
(١) كلمة (غير) ساقطة في الطبعة الاولى ولكنّها موجودة في النسخة الخطيّة الواصلة إلينا.