وثانياً : أنّ التكليف الحقيقيّ الذي ادّعي كونه متقوّماً بالوصول إن أراد به الجعل الشرعي للوجوب ـ مثلاً ـ الناشئ من إرادة ملزمةٍ للفعل ومصلحةٍ ملزمةٍ فيه فمن الواضح أنّ هذا محفوظ مع الشكّ أيضاً ، حتّى لو قلنا بأ نّه غير منجَّزٍ وإنّ المكلف الشاكّ غير ملزم بامتثاله عقلاً ؛ لأنّ شيئاً من الجعل والإرادة والمصلحة لا يتوقّف على الوصول.
وإن أراد به ما كان مقروناً بداعي البعث والتحريك فلنفترض أنّ هذا غير معقولٍ بدون وصول ، إلاّ أنّ ذلك لا يُنهي البحث ؛ لأنّ الشكّ في وجود جعلٍ بمبادئه من الإرادة والمصلحة الملزمَتَين موجود على أيّ حال ، حتّى ولو لم يكن مقروناً بداعي البعث والتحريك ، ولابدّ أن يلاحظ أنّه هل يكفي احتمال ذلك في التنجيز ، أوْ لا؟ وعدم تسمية ذلك بالتكليف الحقيقي مجرّد اصطلاحٍ ولا يُغني عن بحث واقع الحال.
٢ ـ مسلك حقّ الطاعة :
وهكذا نصل إلى المسلك الثاني وهو مسلك حقّ الطاعة المختار. ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة ، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. وهذا من مدركات العقل العملي ، وهي غير مبرهنة. فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العملي غير مبرهنٍ كذلك حدوده سعةً وضيقاً. وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل مالم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ ، على ما تقدم في مباحث القطع (١). فلابدّ من الكلام عن هذا الترخيص وإمكان إثباته شرعاً ، وهو ما يسمّى بالبراءة الشرعية.
__________________
(١) في الجزء الأوّل من الحلقة الثالثة ، تحت عنوان : حجّية القطع.