أحدها : أنّ من الواضح جدّاً أنّ العامة لا يرون خصوصية لتلك الأماكن بل إنّ حكمها حكم غيرها من ثبوت التقصير في الجميع ، وعليه جرت سيرتهم واستقرّ عملهم وإن اختلف رأيهم ونسب إلى كثير منهم التخيير ، أخذاً بظاهر نفي الجناح في الآية المباركة كما ستعرف (١). ولا ينبغي التأمّل في أنّهم عليهم‌السلام كانوا يرون الخصوصية ، فكانوا يقصّرون في الطريق قبل الوصول إلى تلك المواضع جزماً.

إذن فلو كان الأمر بالقصر في هذه الأخبار لبيان الحكم الواقعي للغيت الخصوصية ، ولم يكن ثمة أيّ فرق بينها وبين غيرها من البقاع ، فلا جرم يكون محمولاً على التقيّة ، بحيث لو لم تكن لدينا أيّة رواية أُخرى ما عدا هاتين الطائفتين المتعارضتين للزم بمقتضى هذه القرينة القاطعة حمل الأمر بالقصر على التقيّة.

ثانيها : ما تقدّم من الروايات الصحيحة الناطقة بأنّ التمام من الأمر المذخور في علم الله المخزون ، وأنّه خاصّ بالشيعة ، وبطبيعة الحال يكون الأمر بالقصر على خلاف ذلك ، فيكون للتقية لا محالة ، أي التقيّة في العمل لا في نفس الأمر إذ هي على قسمين : فتارة : يكون الأمر بنفسه للتقية لأجل وجود من يُتّقى منه في مجلس التخاطب ، وأُخرى : يؤمر بشي‌ء يكون ذلك الشي‌ء لأجل التقيّة كيلا يعرف الشيعة من غيرهم ، فهو في الحقيقة أمر بالتقيّة ، أي بواقع التقيّة لا بعنوانها.

والمقام من هذا القبيل ، فأمروا شيعتهم بالتقصير لهذه الغاية ، إذ الشيعي المقصّر في الطريق وفي القافلة غيره من المخالفين وهم يرونه بطبيعة الحال ، لو أتم عند ما بلغ مكّة مثلاً وهم يقصّرون عرفوا تشيّعه بذلك.

ولعلّ هذا هو السر في أنّ جماعة من كبار أصحابهم عليهم‌السلام كصفوان

__________________

(١) في ص ٤٠٤ ٤٠٥.

۴۴۱