بالكلام عامّا مع تخصيص الأكثر وإخراجه من العموم بعد ذلك قبيح في المحاورات العرفيّة ، ويعدّ الكلام عند العرف مستهجنا. فهل ترى يصحّ لعارف بأساليب الكلام أن يقول مثلا : «بعت أموالي» ثمّ يستثني واحدا فواحدا حتّى لا يبقى تحت العامّ إلاّ القليل؟! لا شكّ في أنّ هذا الكلام يعدّ مستهجنا ، لا يصدر عن حكيم عارف.
إذن ، لا يبقى مناص عن حمل الآيتين على الاستحباب.
٨. المرّة والتكرار (١)
واختلفوا أيضا في دلالة صيغة «افعل» على المرّة والتكرار على أقوال ، كاختلافهم في الفور والتراخي.
والمختار هنا كالمختار هناك ، والدليل نفس الدليل من عدم دلالة الصيغة لا بهيئتها ولا بمادّتها على المرّة ولا التكرار ؛ لما عرفت من أنّها لا تدلّ على أكثر من طلب نفس الطبيعة من حيث هي ، فلا بدّ من دالّ آخر على كلّ منهما.
أمّا الإطلاق فإنّه يقتضي الاكتفاء بالمرّة. وتفصيل ذلك أنّ مطلوب المولى لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة ـ ويختلف الحكم فيها من ناحية جواز الاكتفاء وجواز التكرار ـ :
١. أن يكون المطلوب صرف وجود الشيء بلا قيد ولا شرط ، بمعنى أنّه يريد ألاّ يبقى مطلوبه معدوما ، بل يخرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود لا أكثر ، ولو بفرد واحد. ولا محالة ـ حينئذ ـ ينطبق المطلوب قهرا على أوّل وجوداته ، فلو أتى المكلّف بما أمر به أكثر من مرّة فالامتثال يكون بالوجود الأوّل ، ويكون الثاني لغوا محضا ، كالصلاة اليوميّة.
__________________
(١) المرّة والتكرار لهما معنيان : الأوّل : الدفعة والدفعات ، الثاني : الفرد والأفراد. والظاهر أنّ المراد منهما في محلّ النزاع هو المعنى الأوّل. والفرق بينهما أنّ الدفعة قد تتحقّق بفرد واحد من الطبيعة المطلوبة ، وقد تتحقّق بأفراد متعدّدة إذا جيء بها في زمان واحد. فلذلك تكون الدفعة أعمّ من الفرد مطلقا ، كما أنّ الأفراد أعمّ مطلقا من الدفعات ؛ لأنّ الأفراد ـ كما قلنا ـ قد تحصل دفعة واحدة وقد تحصل بدفعات. ـ منه رحمهالله ـ.
وأقول : اختلفوا في أنّه هل المراد من المرّة والتكرار هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد أو الأعمّ منهما؟ فذهب صاحب الفصول إلى الأوّل ونسب الثاني إلى بعض معاصريه. وذهب المحقّق الخراسانيّ إلى الثالث. فراجع الفصول الغرويّة : ٧١ ؛ كفاية الأصول : ١٠١.