٥. الحكومة والورود

وهذا البحث من مبتكرات الشيخ الأنصاريّ رحمه‌الله ، وقد فتح به بابا جديدا في الأسلوب الاستدلاليّ ، ولئن نشأ هذا الاصطلاح في عصره من قبل غيره ـ كما يبدو من التعبير بالحكومة والورود في «جواهر الكلام» (١) ـ ؛ فإنّه لم يكن بهذا التحديد والسعة اللذين انتهى إليهما الشيخ قدس‌سره.

وكان رحمه‌الله ـ على ما ينقل عنه ـ يصرّح بأنّ أساطين الفقه المتقدّمين لم يغفلوا عن مغزى ما كان يرمي إليه ، وإن لم يبحثوه بصريح القول ، ولا بهذا المصطلح.

واللّفتة الكريمة منه كانت في ملاحظته لنوع من الأدلّة ؛ إذ وجد أنّ من حقّها أن تقدّم على أدلّة أخرى في حين أنّها ليست بالنسبة إليها من قبيل الخاصّ والعامّ ، بل قد يكون بينهما العموم من وجه ، ولا يوجب هذا التقديم سقوط الأدلّة الأخرى عن الحجّيّة ، ولا تجري بينهما قواعد التعارض ؛ لأنّه لم يكن بينهما تكاذب بحسب لسانهما من ناحية أدائيّة ، ولا منافاة ، يعني أنّ لسان أحدهما لا يكذّب الآخر ، ولا يبطله ، بل أحدهما المعيّن من حقّه ـ بحسب لسانه وأدائه لمعناه ، وعنوانه ـ أن يكون مقدّما على الآخر ، تقديما لا يستلزم بطلان الآخر ، ولا تكذيبه ، ولا صرفه عن ظهوره.

وهذا هو العجيب في الأمر ، والجديد على الباحثين ، وذلك مثل تقديم أدلّة الأمارة على أدلّة الأصول العمليّة بلا إسقاط لحجّيّة الثانية ، ولا صرف لظهورها.

والمعروف أنّ أحد اللامعين من تلامذته (٢) التقى به في درس الشيخ صاحب الجواهر قدس‌سره قبل أن يتعرّف عليه ، وقبل أن يعرف الشيخ قدس‌سره بين الناس ، وسأله سؤال امتهان (٣) ، واختبار عن سرّ تقديم دليل على آخر جاء ذكرهما في الدرس المذكور ، فقال له : «إنّه حاكم عليه». قال : «وما الحكومة؟». فقال له : «يحتاج إلى أن تحضر درسي ستّة أشهر على الأقلّ لتفهم

__________________

(١) جواهر الكلام ١ : ٢٣٥.

(٢) قيل : هو العلاّمة ميرزا حبيب الله الرشتي صاحب «بدائع الأفكار».

(٣) أي : احتقار.

۶۸۸۱