إلى أمر حقيقيّ حاصل فعلا قبل ورود بيان الشارع ، بل إنّ ما حسّنه الشارع فهو حسن وما قبّحه الشارع فهو قبيح ، فلو عكس الشارع القضيّة فحسّن ما قبّحه وقبّح ما حسّنه لم يكن ممتنعا وانقلب الأمر فصار القبيح حسنا والحسن قبيحا ، ومثّلوا لذلك بالنسخ من الحرمة إلى الوجوب ومن الوجوب إلى الحرمة (١).

وقالت العدليّة : إنّ للأفعال قيما ذاتيّة عند العقل مع قطع النظر عن حكم الشارع ، فمنها : ما هو حسن في نفسه ، ومنها : ما هو قبيح في نفسه ، ومنها : ما ليس له هذان الوصفان. والشارع لا يأمر إلاّ بما هو حسن ، ولا ينهى إلاّ عمّا هو قبيح ، فالصدق في نفسه حسن ولحسنه أمر الله (تعالى) به ، لا أنّه أمر الله (تعالى) به فصار حسنا ، والكذب في نفسه قبيح ولذلك نهى الله (تعالى) عنه ، لا أنّه نهى عنه فصار قبيحا (٢).

هذه خلاصة الرأيين. وأعتقد عدم اتّضاح رأي الطرفين بهذا البيان ، ولا تزال نقط غامضة في البحث إذا لم نبيّنها بوضوح لا نستطيع أن نحكم لأحد الطرفين. وهو أمر ضروريّ مقدّمة للمسألة الأصوليّة ، ولتوقّف وجوب المعرفة عليه. فلا بدّ من بسط البحث بأوسع ممّا أخذنا على أنفسنا من الاختصار في هذا الكتاب ؛ لأهمّيّة هذا الموضوع من جهة ؛ ولعدم إعطائه حقّه من التنقيح في أكثر الكتب الكلاميّة والأصوليّة من جهة أخرى.

وأكلّفكم قبل الدخول في هذا البحث بالرجوع إلى ما حرّرته في الجزء الثالث من المنطق عن القضايا المشهورات (٣) ؛ لتستعينوا به على ما هنا.

والآن أعقد البحث هنا في أمور :

١. معنى الحسن والقبح وتصوير النزاع فيهما

إنّ الحسن والقبح لا يستعملان بمعنى واحد ، بل لهما ثلاثة معان ، فأيّ هذه المعاني هو

__________________

(١) راجع : شرح المواقف ٨ : ١٩٢ ؛ شرح المقاصد ٤ : ٢٨٤ ؛ شرح التجريد للقوشجيّ : ٣٣٧.

(٢) هذا ما ذهب إليه المعتزلة ـ الذين سمّوا أنفسهم بأصحاب العدل ـ والإماميّة. راجع شرح تجريد الاعتقاد «كشف المراد» : ٣٠٣ : شرح الباب الحادي عشر : ٢٦ ؛ مفتاح الباب : ١٥٢.

(٣) المنطق ٣ : ٢٩١ ـ ٢٩٧.

۶۸۸۱