على أنّ في هذه التعليلات من المناقشة ما لا يسعه هذا المختصر ، ولا حاجة إلى مناقشتها بعد ما ذكرناه. هذا كلّه في النهي النفسيّ.
أمّا النهي الغيريّ المقدّميّ : فحكمه حكم النفسيّ بلا فرق ، كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم (١) ؛ فإنّه أشرنا هناك إلى الوجه الذي ذكره بعض أعاظم مشايخنا قدسسرهم (٢) للفرق بينهما بأنّ النهي الغيريّ لا يكشف عن وجود مفسدة وحزازة في المنهيّ عنه ، فيبقى المنهيّ عنه على ما كان عليه من المصلحة الذاتيّة بلا مزاحم لها من مفسدة للنهي ، فيمكن التقرّب به بقصد تلك المصلحة الذاتيّة المفروضة ، بخلاف النهي النفسيّ الكاشف عن المفسدة والحزازة في المنهيّ عنه ، المانعة من التقرّب به.
وقد ناقشناه هناك بأنّ التقرّب والابتعاد ليسا يدوران مدار المصلحة والمفسدة الذاتيّتين حتّى يتمّ هذا الكلام ، بل ـ كما ذكرناه هناك ـ أنّ الفعل المبعّد عن المولى في حال كونه مبعّدا لا يعقل أن يكون متقرّبا به إليه ، كالتقرّب والابتعاد المكانيّين ، والنهي وإن كان غيريّا يوجب البعد ومبغوضيّة المنهيّ عنه وإن لم يشتمل على مفسدة نفسيّة.
ويبقى الكلام في النهي التنزيهيّ ـ أي الكراهة ـ ، فالحقّ أيضا أنّه يقتضي الفساد ، كالنهي التحريميّ ، لنفس التعليل السابق من استحالة التقرّب بما هو مبعّد بلا فرق ، غاية الأمر أنّ مرتبة البعد في التحريميّ أشدّ وأكثر منها في التنزيهيّ ، كاختلاف مرتبة القرب في موافقة الأمر الوجوبيّ والاستحبابيّ. وهذا الفرق لا يوجب تفاوتا في استحالة التقرّب بالمبعّد. ولأجل هذا حمل الأصحاب الكراهة في العبادة على أقلّيّة الثواب مع ثبوت صحّتها شرعا لو أتى بها المكلّف ، لا الكراهة الحكميّة الشرعيّة ، ومعنى حمل الكراهة على أقلّيّة الثواب أنّ النهي الوارد فيها يكون مسوقا لبيان هذا المعنى ، وبداعي الإرشاد إلى أقلّيّة الثواب ، وليس مسوقا لبيان الحكم التكليفيّ المقابل للأحكام الأربعة الباقية بداعي الزجر عن الفعل والردع عنه.
وعليه ، فلو أحرز بدليل خاصّ أنّ النهي بداعي الزجر التنزيهيّ ، ولم يحرز من
__________________
(١) راجع الصفحة : ٣١١.
(٢) وهو المحقّق النائينيّ في فوائد الأصول ٢ : ٤٥٦.