والملاحظة من عدم وجود أيّة دلالةٍ لِلَّفظ لدى الإنسان قبل الاكتساب والتعلّم.
الثاني : افتراض أنّ السببيّة المذكورة نشأت من وضع الواضع اللفظَ للمعنى ، والوضع نوع اعتبارٍ يجعله الواضع وإن اختلف المحقّقون في نوعيّة المعتبَر (١) ، فهناك من قال : إنّه «اعتبار سببيّة اللفظ لتصوّر المعنى». ومن قال : إنّه «اعتبار كون اللفظ أداةً لتفهيم المعنى». ومن قال : إنّه «اعتبار كون اللفظ على المعنى ، كما توضع الأعمدة على رؤوس الفراسخ».
ويرد على هذا المسلك بكلّ محتملاته : أنّ سببيّة اللفظ لتصوّر المعنى سببيّة واقعيّة بعد الوضع ، ومجرّد اعتبار كون شيءٍ سبباً لشيءٍ أو اعتبار ما يقارب هذا المعنى لا يحقِّق السببيّة واقعاً ، فلا بدّ لأصحاب مسلك الاعتبار في الوضع أن يفسِّروا كيفيّة نشوء السببيّة الواقعيّة من الاعتبار المذكور ، وقد يكون عجز هذا المسلك عن تفسير ذلك أدّى بآخرينَ إلى اختيار الاحتمال الثالث الآتي :
الثالث : أنّ دلالة اللفظ تنشأ من الوضع ، والوضع ليس اعتباراً ، بل هو تعهّد من الواضع بأن لا يأتي باللفظ إلاّعند قصد تفهيم المعنى ، وبذلك تنشأ ملازمة بين الإتيان باللفظ وقصد تفهيم المعنى (٢) ، ولازم ذلك أن يكون الوضع هو السبب في الدلالة التصديقيّة المستبطنة ضمناً للدلالة التصوّريّة ، بينما على مسلك الاعتبار لا يكون الوضع سبباً إلاّللدلالة التصوّريّة ، وهذا فرق مهمّ بين المسلكين.
وهناك فرق آخر ، وهو : أنّه بناءً على التعهّد يجب افتراض كلّ متكلّمٍ متعهّداً وواضعاً لكي تتمّ الملازمة في كلامه ، وأمّا بناءً على مسلك الاعتبار فيفترض أنّ الوضع إذا صدر في البداية من المؤسِّس أوجب دلالةً تصوّريّةً عامّةً لكلّ من علم به ، بدون حاجةٍ إلى تكرار عمليّة الوضع من الجميع.
__________________
(١) راجع نهاية الدراية ١ : ٤٧ وأجود التقريرات ١ : ١١
(٢) تشريح الاصول : ٢٥ ، والمحاضرات ١ : ٤٥