إذن فهذه الروايات بأجمعها غير صالحة لتقييد الصحيحة مضافاً إلى أن جميعها تشتمل على الترجيح بالأورعية والأعدلية ، ولا شبهة في أن الأورعية غير معينة للرجوع إلى الأورع عند وجود من هو أعلم منه. وبهذا يظهر أن مواردها صورة المعارضة دون الرجوع ابتداءً.

ومما استدل به على التقييد ما في عهد أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى مالك الأشتر من قوله : « اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك » (١).

ويرد عليه : أوّلاً : أن العهد غير ثابت السند بدليل قابل للاستدلال به في الأحكام الفقهية وإن كانت عباراته ظاهرة الصدور عنه عليه‌السلام إلاّ أن مثل هذا الظهور غير صالح للاعتماد عليه في الفتاوى الفقهية أبداً.

وثانياً : أنه إنما يدل على لزوم اختيار أفضل الرعية للقضاء ، وأين هذا من اعتبار الأعلمية في محل الكلام ، لأن بين الأفضل والأعلم عموماً من وجه فإن الظاهر أن المراد بالأفضل هو المتقدم فيما يرجع إلى الصفات النفسانية من الكرم وحسن الخلق وسعة الصدر ونحوها مما له دخل في ترافع الخصمين وسماع دعواهما وفهمها ، دون الأعلمية في الفقاهة والاستنباط بالمعنى المتقدم في معنى الأعلم.

وثالثاً : أن ما ادعي من دلالة العهد على اعتبار الأعلمية لو تمّ فإنما يختص بالقاضي المنصوب نصباً خاصاً من قبل الإمام عليه‌السلام أو الوالي من قبله ، ومحل الكلام إنما هو القاضي المنصوب بالنصب العام من باب الولاية وأين أحدهما من الآخر.

والمتحصّل : أنه ليس هناك دليل يدلنا على تقييد الصحيحة المتقدمة ، فإطلاقها هو المحكّم كما ذكرناه.

وقد يتوهّم أن في الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام ما دلّ على اشتراط الأعلمية في باب القضاء كما ذكره صاحب الوسائل قدس‌سره حيث عقد باباً وعنونه بباب أنه لا يجوز للقاضي أن يحكم عند الشك في المسألة ، ولا في حضور من هو أعلم منه (٢).

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٣٤.

(٢) وسائل الشيعة ٢٧ : ٢١٥ / أبواب آداب القاضي.

۳۷۹