تتميم : قد أسلفنا (١) أن المعنى المتحصل للتخيير عند تعارض الطرق والأمارات على القول به هو تفويض أمر الحجية إلى المكلف وجعلها تابعة لاختياره ، بحيث يتمكن من جعل ما ليس بحجة حجة بالالتزام بالعمل على طبقه ، فهو تخيير في المسألة الأُصولية أعني الحجية كما تقدم وغير راجع إلى التخيير الواقعي أو الظاهري في الأحكام.

أمّا أنه ليس من التخيير الواقعي في المسألة الفرعية بأن يكون المكلف مخيراً واقعاً بين الإتيان بفعل وتركه أو الإتيان بفعل آخر نظير التخيير في الأماكن الأربعة بين القصر والتمام ، فلأن مفروض الكلام أن الفتويين متعارضتان وقد ذكرنا في محلّه (٢) أن معنى التعارض تنافي مدلولي الدليلين بحسب الجعل ، لعدم إمكان جعلهما معاً فيكون كل منهما مكذباً للآخر. إذن لا يحتمل مطابقة كلتيهما للواقع لاستلزامه الجمع بين الضدّين أو النقيضين بل إحداهما غير مطابقة للواقع قطعاً وثانيتهما يحتمل أن تكون مطابقة للواقع كما يحتمل أن تكون مخالفة له وهذا بخلاف التخيير الواقعي في المثال فإن كلاّ من الفعلين واجب تخييري واقعاً.

وأمّا عدم كونه من التخيير الظاهري فللعلم بأن المكلف مأمور بالعمل بفتوى هذا المجتهد معيناً أو فتوى المجتهد الآخر ولا نحتمل أن يكون مخيراً واقعاً بين العمل بهذا أو بذاك ، ومع انتفاء الشك الّذي هو الموضوع للأحكام الظاهرية لا مجال للتخيير الظاهري بوجه.

وكيف كان فالتخيير في المقام من التخيير في الحجية بالمعنى المتقدم ، والمتعارضان حجتان شأنيتان فإذا اختار المكلف إحداهما فصارت فعلية ، وشككنا في أن الفتوى الثانية هل سقطت عن الحجية الشأنية ليزول بذلك التخيير أو أنها باقية بحالها ، فلنا أن نستصحب بقاءها على الحجية التخييرية إلاّ أنها معارضة باستصحاب الحجية الفعلية للفتوى المأخوذ بها ، بل باستصحاب الحكم الفرعي الّذي أدّت إليه الفتوى المذكورة فالاستصحابان متعارضان كما بيّناه. على أنه قد تقدم أن استصحاب الحجية الشأنية‌

__________________

(١) راجع ص ٩٦.

(٢) مصباح الأُصول ٣ : ٣٥٤.

۳۷۹