ذكرنا في محلّه (١) أن المتزاحمين إذا علمنا أهمية أحدهما لم يكن أي مسوّغ لرفع اليد عن الآخر المهم بالكلّية ، بل اللاّزم أن يرفع اليد عن إطلاقه فحسب ، فإن الضرورات تتقدر بقدرها ، والتنافي بينهما يرتفع بتقييد إطلاق المهم بما إذا ترك الإتيان بالأهم فلا مقتضي لرفع اليد عن المهم رأساً ، ومن هنا ذكرنا أن الترتب أمر ممكن وأنه على طبق القاعدة ، إذ لا منافاة بين الأمر بالأهم على نحو الإطلاق وبين الأمر بالمهم على تقدير ترك الأهم ، هذا إذا علمنا أهمية أحدهما معيناً.

وأما إذا كانا متساويين فلا مناص من رفع اليد عن الإطلاق في كليهما وتقييده بما إذا لم يأت بالآخر ، إذ بذلك يرتفع التنافي بينهما وهو الترتب من الجانبين وتكون النتيجة أن المكلف مخيّر بينهما.

وأما إذا احتملنا الأهمية في أحدهما المعيّن دون الآخر فإطلاق ما لا يحتمل أهميته مقيّد لا محالة. وأما إطلاق ما نحتمل أهميته فلا علم لنا بتقييده ، لأنه على تقدير كونه أهم يبقى إطلاقه بحاله كما أنه يقيد إذا كان مساوياً مع الآخر ، فإذا شككنا في ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاقه لعدم العلم بورود التقييد عليه ، هذا كلّه في كبرى المسألة.

وأما تطبيقها على محل الكلام فلا شبهة في أن الأهمية غير محرزة في فتوى الأعلم وإلاّ لتعيّن الرجوع إليه ، إذ الكلام فيما إذا لم نعلم بذلك وشككنا في تعيّنه إلاّ أن احتمال الأهمية موجود بالوجدان وهذا بخلاف فتوى غير الأعلم إذ لا يحتمل فيها الأهمية بوجه. إذن لا مانع من التمسك بإطلاق الأدلة المتقدمة القائمة على حجية فتوى الفقيه لعدم العلم بتقييدها بالإضافة إلى فتوى الأعلم ، كما علمنا بتقييدها بالإضافة إلى فتوى غير الأعلم ، ومع وجود الدليل الاجتهادي والإطلاق لا تصل النوبة إلى الأصل العملي حتى يقال : إن احتمال فعلية الأمر باتباع فتوى الأعلم مندفع بالبراءة لقبح العقاب من دون بيان.

مضافاً إلى أن البراءة غير جارية في نفسها ، وذلك لأن العقل كما أنه يستقل بقبح مخالفة التكليف وعصيانه كذلك يستقل بقبح تفويت الملاك ، وقد فرضنا أن اتباع كل‌

__________________

(١) محاضرات في أُصول الفقه ٣ : ١٢٠.

۳۷۹