الآيات الناهية عن التقليد
ثمّ إن هناك آيات وردت في النهي عن التقليد وذمه كقوله عزّ من قائل ﴿ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ (١) وقوله ﴿ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ (٢) وغير ذلك من الآيات إلاّ أنها أجنبية عمّا نحن بصدده ، فإن محل الكلام إنما هو التقليد في الأحكام الفرعية بالإضافة إلى العوام غير المتمكن من تحصيل العلم بالمسألة والآيات المباركة إنما وردت في ذم التقليد في الأُصول ، حيث كانوا يتبعون آباءهم في أديانهم ، مع أن الفطرة قاضية بعدم جواز التقليد من مثلهم ولو في غير الأصول وذلك لأنه من رجوع الجاهل إلى جاهل مثله ومن قيادة الأعمى لمثله ، فالذم فيها راجع إلى ذلك. مضافاً إلى أن الأُمور الاعتقادية يعتبر فيها العلم والمعرفة ولا يسوغ فيها الاكتفاء بالتقليد ، وليس في شيء من الآيات المتقدمة ما يدل على النهي عن التقليد في الفروع عن العالمين بها ، لمن لا يتمكن من العلم بالأحكام.
وأمّا الآيات الناهية عن الظن ، فهي أيضاً كسابقتها في عدم الدلالة على حرمة التقليد لما بيّناه في محلّه من أن النهي في تلك الآيات ليس نهياً مولوياً ، وإنما هو إرشاد إلى ما استقل به العقل ، إذ الظن يقترن دائماً باحتمال الخلاف فالعمل به مقرون باحتمال العقاب لا محالة ، ودفع العقاب المحتمل مما استقل به من العقل ، والنهي في الآيات المباركة إرشاد إليه. ومن ثمة قلنا في محله إن حجية أي حجة لا بدّ من أن تنتهي إلى العلم ، إذ لو لم تكن كذلك لاحتمل معها العقاب والعقل مستقل بلزوم دفعه.
وعلى الجملة ، أن دلالة آية النفر على حجية الفتوى وجواز التقليد مما لا إشكال فيه ، ولا يعارضها شيء من الآيات المباركة.
ومنها : الروايات الدالة على جواز العمل بالتقليد وحجية الفتوى في الفروع ، وهي كثيرة بالغة حدّ التواتر الإجمالي وإن لم تكن متواترة مضموناً. وبها يظهر أن الأدلة
__________________
(١) المائدة ٥ : ١٠٤.
(٢) البقرة ٢ : ١٧٠.