التنبيه الثالث : لا شبهة في جواز الرجوع إلى المجتهد فيما إذا علم بالأحكام الشرعية علماً وجدانياً ، لأنه يصدق عليه الفقيه لعلمه بالأحكام الشرعية حقيقة والرجوع إليه من رجوع الجاهل إلى العالم والفقيه ، وكذلك الحال فيما إذا لم يكن عالماً بها بالوجدان إلاّ أنه استنبطها من الأمارات المعتبرة شرعاً ، فإنه أيضاً لا إشكال في الرجوع إليه بناءً على ما هو الصحيح من أن اعتبار الحجج والأمارات من باب الطريقية والكاشفية وجعل ما ليس بعلم علماً ، بلا فرق في ذلك بين الحجج التأسيسية والإمضائية وإن لم نعثر إلى الآن على ما يكون حجة تأسيسية لأنها إمضائية بأجمعها والشارع يتصرف فيها بإضافة قيد أو حذفه ، فإن المجتهد وقتئذٍ عالم بالأحكام الشرعية كما أنه فقيه وإن كان علمه بها علماً تعبدياً لا وجدانياً ، ولا فرق بين العلم الوجداني والتعبدي بعد شمول الأدلة القائمة على جواز التقليد لمن استنبط الأحكام من الأمارات الشرعية لصدق أنه فقيه وعالم بالأحكام تعبداً.
وأما بناءً على ما نسب إلى المشهور من الالتزام بجعل الحكم المماثل على طبق مؤدى الأمارات ، فأيضاً لا كلام في جواز الرجوع إليه ، لأن المجتهد على هذا المسلك عالم بالأحكام الظاهرية وإن لم يكن عالماً بالحكم الواقعي ، ومن هنا قالوا إن ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم ، وبهذا دفعوا المناقشة المعروفة في أخذ العلم بالأحكام الشرعية في تعريف الفقه ، بأن الأحكام الشرعية بأكثرها ظنية. نعم ، ذكرنا في محلّه أن جعل الحكم المماثل في موارد الطرق والأمارات مما لا أساس له ، لما أشرنا إليه من أن الحجية إمضائية ولا يعتبر العقلاء جعل الحكم المماثل في شيء من الحجج ، وإنما يعاملون معها معاملة العلم فحسب.
ثمّ لو تنزلنا عن ذلك وسلمنا أن الحجية في السند بمعنى جعل الحكم المماثل فلا مجال للالتزام به في حجية الدلالة ، لأنها تستند إلى حجية الظهور ولا شبهة في أنها عقلائية ، وقد عرفت أن العقلاء لا يعتبرون في الحجية جعل المماثل بوجه والاستنباط وإن كان يتوقف على كل من حجية السند والدلالة ، إلاّ أن الحجية في الدلالة ليست بمعنى جعل المماثل قطعاً ، فالقول بذلك لا يبتني على دليل ، إلاّ أنّا لو قلنا بذلك جاز تقليد المجتهد لصدق أنه فقيه وعالم بالأحكام كما عرفت ، ولعلّ هذا مما لا إشكال فيه.