الشرعية على النحو المزبور في حق المجتهد بطبع رسالته العملية وجعلها مورداً يتمكن من الوصول إليه ، أو بجلوسه في بيته وتهيئه للجواب عند السؤال عن الأحكام الشرعية. وهذا بخلاف المقام لأن المطلوب فيه ليس هو التحفظ على الأحكام الشرعية عن الاندراس ببيانها على نحو يتمكن المكلّف من الوصول إليها ، بل المراد إيصال الحكم إلى العامّي الجاهل بشخصه ، وهذا مما لا تقتضيه الأدلة الواردة في وجوب تبليغ الأحكام الشرعية فالاستدلال بتلك الأدلة مما لا وجه له في المقام ، هذا كلّه في الصورة الأُولى.
أما الصورة الثانية : فالصحيح أن الاعلام غير واجب حينئذٍ ، إذ لا دليل على وجوبه ، فإذا سئل المجتهد عن الصوت المرجّع مثلاً فأفتى بحرمته وأنه غناء وظهر بعد ذلك أن فتواه فيه الإباحة وأن المحرّم هو الصوت المرجّع المطرب ، لم يجب عليه إعلام السائل بالحال ، لأنه أو الناقل وإن سبّب ترك العمل للمكلّف إلاّ أنه تسبيب إلى التزام المكلّف بترك أمر مباح أو بإتيان عمل غير واجب ولا حرام وهو مما لا محذور فيه بل هو أمر مستحسن لأنه موافق للاحتياط ، فما استدللنا به على حرمة التسبيب غير جار في المقام.
وأما الاستدلال على وجوب الاعلام في هذه الصورة بما دلّ على وجوب تبليغ الأحكام وحفظها عن الاندراس فيرد عليه :
أوّلاً : ما قدّمناه من أن تلك الأدلة إنما تقتضي وجوب تبليغ الأحكام بمعنى بيانها على نحو يتمكن من الوصول إليها ولا دلالة لها على وجوب إيصالها إلى آحاد المكلّفين الّذي هو المطلوب في المقام.
وثانياً : أن الآيات والأخبار المستدل بهما على وجوب تبليغ الأحكام مختصة بالأحكام الإلزامية ، ولا تعمّ الأحكام الترخيصية إما لاقترانها بالقرينة في نفسها كقوله عزّ من قائل ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ... ﴾ (١) فإنه يدل على أن كتمان ما هو سبب للهداية
__________________
(١) البقرة ٢ : ١٥٩.