وناقش في ذلك بعض مشايخنا المحققين قدسسرهم بما حاصله : أن القاعدة إنما تقتضي الأخذ بما يحتمل تعينه فيما إذا استند احتمال التعيين إلى أقوائية الملاك في أحدهما عن الملاك في الآخر كما في الأعلمية ، إذ الملاك في حجية الفتوى والنظر هو العلم والفقاهة وهما في الأعلم أقوى منهما في غير الأعلم ، والأصل يقتضي التعيين في مثله وأما إذا كان احتمال التعيّن مستنداً إلى أمر خارج عن الملاك ولم يستند إلى أقوائيته في أحدهما ، فلا يقتضي الأصل فيه التعيين لتساويهما فيما هو ملاك الحجية على الفرض والأمر في المقام كذلك إذ الملاك في حجية الفتوى هو العلم وهو أمر مشترك فيه بين الأورع وغيره ، وكون أحدهما آتياً بصلاة الليل مثلاً أو متورعاً في الشبهات لا ربط له بما هو الملاك في الحكم بحجية نظره وفتواه ، فمثله لا يمكن أن يكون مرجحاً في مقام الحجية أبداً (١).
وفيه : أن الأورعية قد يفرض القطع بعدم كونها ذات دخالة في حكم الشارع بحجية الفتوى بوجه ، وهي خارجة حينئذٍ عن محل الكلام فإن حالها على هذا حال الهاشمية والأسنّية وصباحة الوجه وغيرها ، فكما أن تلك الصفات ليست مرجحة لإحدى الفتويين من غير ريب ، كذلك الحال في الأورعية على الفرض.
وقد يحتمل أن تكون مرجحة لإحداهما ، وهذا لا لأنها ذات دخالة فيما هو الملاك للحجية ، بل من جهة أن الشارع جعلها مرجحة لإحداهما كما جزم بها شيخنا الأنصاري قدسسره (٢) فإن جزمه بها وإن لم يكن حجة على غيره ، إلاّ أنه يكفي في إثارة الاحتمال بالوجدان. إذن يحتمل أن تكون الأورعية مرجحة لإحداهما ومعه لا مناص من اختيار الأورع ، وذلك لأن الملاك فيما استقلّ به العقل من الأخذ بما يحتمل تعينه إنما هو حصول اليقين بفراغ الذمة عن التكليف المنجّز على تقدير العمل به ، والأمر في المقام كذلك لأن العمل على فتوى الأورع معذّر يقيناً ومعذّرية فتوى غير الأورع غير معلومة للشك في حجيتها ، وهو يساوق القطع بعدم الحجية كما مرّ ، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون المرجح أمراً خارجياً كما في المقام وبين أن يكون أمراً
__________________
(١) رسالة في الاجتهاد والتقليد ( الأصفهاني ) : ٦٤.
(٢) رسالة في الاجتهاد والتقليد : ٨٣.