__________________

ـ ثمّ لا يخفى : أنّ الأعلام من المحقّقين من المعاصرين اختلفوا في دلالة الحديث على البراءة وعدمه. فمنهم من خالفه وذهب إلى اختصاصه بالشبهة الموضوعيّة ، كالمحقّق النائينيّ والمحقّق الاصفهانيّ والسيّد الخوئيّ ؛ ومنهم من خالفه في موضع ووافقه فى موضع آخر ، كالمحقّق العراقيّ ؛ ومنهم من خالفه في جهة ووافقه في جهة اخرى ، كالسيّد الإمام الخمينيّ.

أمّا المحقّق النائينيّ : فأفاد ما حاصله : أنّ الحديث لا يدلّ على البراءة في الشبهة الحكميّة ، إذ فيه قرينتان تقتضيان اختصاصه بالشبهة الموضوعيّة :

إحداهما : كلمة «فيه» ـ أو «منه» على اختلاف النسخ ـ في قوله : «فيه حلال وحرام» ، فإنّها ظاهرة في الانقسام الفعليّ ، بمعنى كون الشيء بالفعل منقسما إلى الحلال والحرام ، بأن يكون قسم منه حلالا وقسم منه حراما واشتبه الحلال منه بالحرام ولم يعلم أنّ المشكوك فيه من القسم الحلال أو من الحرام ، كاللحم المشكوك كونه من الميتة أو المذكّى ، فإنّ اللحم بالفعل منقسم إلى ما يكون حلّا وما يكون حراما. وذلك لا يتصوّر إلّا في الشبهات الموضوعيّة كما مثّلنا. وأمّا الشبهات الحكميّة فلا تكون القسمة فيها فعليّة ، بل إنّما تكون القسمة فيها فرضيّة ، بمعنى احتمال الحرمة والحلّيّة ، فإنّ شرب التتن المشكوك حلّيّته وحرمته ليس له قسمان : قسم حلال وقسم حرام ، بل هو إمّا أن يكون حراما وإمّا أن يكون حلالا ، فلا يصحّ أن يقال : إنّ شرب التتن فيه حلال وحرام. فكلمة «فيه» ظاهرة في اختصاص الحديث بالشبهات الموضوعيّة.

وثانيتهما : كلمة «بعينه» ، حيث قال : «حتّى تعرف أنّه حرام بعينه» ، فإنّ معرفة الشيء بعينه إنّما يكون في الموضوعات الخارجيّة ، إذ لا يتصوّر العلم بالحرام لا بعينه في الشبهات الحكميّة ، ضرورة أنّه لا معنى لأن يقال : «حتّى تعرف الحكم بعينه». فوائد الاصول ٣ : ٣٦٣ ـ ٣٦٤.

وصرّح المحقّق الاصفهانيّ باختصاصه بالشبهة الموضوعيّة بقرينة أنّ الإمام عليه‌السلام طبّق القضيّة الكلّيّة «كلّ شيء هو لك حلال ...» على الشبهة الموضوعيّة بقوله عليه‌السلام : «وذلك مثل ...». نهاية الدراية ٢ : ٤٤٩.

والمحقّق الخوئيّ تبع هذين العلمين وأفاد ما أفاداه. مصباح الاصول ٢ : ٢٧٣ ـ ٢٧٧.

وأمّا المحقّق العراقيّ : فوافق المصنّف رحمه‌الله على ما في تقريرات درسه «نهاية الأفكار» وما في «مقالات الاصول» ، فإنّه تعرّض فيهما للقرينة الاولى من القرينتين اللتين ذكرهما المحقّق النائينيّ ودفع قرينيّتها بدعوى إمكان تصوّر الانقسام الفعليّ في الشبهات الحكميّة أيضا ، كما في كلّيّ اللحم ، فإنّا إذا علمنا بحلّيّة لحم نوع من الحيوان ـ كالغنم ـ فيحكم بحليّته ، وإذا علمنا بحرمة لحم نوع آخر من الحيوان ـ كالأرنب ـ فيحكم بحرمته ، وإذا شككنا ـ

۴۴۳۱