ثم بعد ذلك في العصر الثالث من علم الأصول تبلورت البراءة العقلية بعنوان قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ثم شكك جملة منهم في جريانها في الشبهات المفهومية لأنّ البيان العرفي قد يكون تاما فيها على تقدير شمول المفهوم وانّ كان غير تام عند الشاك ، ورد من قبل الآخرين بأنّ المراد من البيان العلم عند المكلف نفسه فلا بدّ من تمامية البيان عند الشاك. كما انه ذهب بعضهم إلى عدم جريانها في الشبهات الموضوعية لأنّ المولى ليس من وظيفته بيان الموضوعات وتعيين المصاديق ، وردّ بأنّ المقصود العلم بالمجعول وهو غير حاصل في الموضوعات أيضا وليس المقصود البيان والخطاب الشرعي لكي يقال بأنّ ذلك مختص بالشبهات الحكمية.
وكل هذه التشكيكات توحي بأنّ القاعدة ليست فطرية ومسلمة.
الجهة الثانية ـ استدل على قاعدة قبح العقاب بلا بيان بوجوه عديدة.
الأول ـ الإحالة إلى الوجدان العرفي والعقلائي في باب المولويات العقلائية ، حيث نرى انهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل وعدم العلم بالحكم الواقعي ولا الظاهري الإلزامي. فيكون هذا منبها مثلا على ارتكازية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعقليتها.
وهذا الوجه غير تام ، لأنه مبني على انّ يكون حق الطاعة والمولوية أمرا واحدا لا درجات لها ولا مراتب ، وقد عرفت خلافه وانّ المولويات العرفية والعقلائية باعتبارها مجعولة وليست ذاتية أو بملاكات ضعيفة فالمقدار المجعول من المولوية عقلائيا ليس بأكثر من موارد العلم بالتكليف وامّا في المولى الحقيقي والّذي تكون مولويته ذاتية بملاك بالغ كامل مطلق وهو المنعمية التي لا حد لها بل والمالكية والخالقية للإنسان فالعقل لا يرى أي قصور في مولويته وحق طاعته بل يرى عمومهما لتمام موارد التكليف حتى موارد عدم العلم به.
وبذلك يظهر انّ التقريب المذكور قد وقع فيه الخلط بين المولويات الاعتبارية المجعولة والمولوية الحقيقية الذاتيّة وبالالتفات إلى التمييز بينهما لا يبقى في الإحالة إلى السيرة العقلائية أو الوجدان العرفي أيّة دلالة أو منبهية على حقانية قاعدة عقلية باسم قبح العقاب بلا بيان.
الثاني ـ ما تمت صياغته في مدرسة المحقق النائيني ( قده ) وحاصله : انّ القاعدة