والقول بالاتّفاق من الجهل بالأسباب الحقيقيّة ونسبة الغاية إلى غير ذي الغاية. فعثور الحافر للبئر على الكنز إذا نسب إلى سببها الذاتيّ ـ وهو حفر البئر بشرط محاذاته للكنز الدفين تحته ـ غاية ذاتيّة دائميّة ، وليس من الاتّفاق في شيء. وإذا نسب إلى مطلق حفر البئر من غير شرط آخر كان اتّفاقا وغاية عرضيّة منسوبة إلى غير سببه الذاتيّ الدائميّ. وكذا موت من انهدم عليه البيت وقد دخله للاستظلال إذا نسب إلى سببه الذاتيّ ـ وهو الدخول في بيت مشرف على الانهدام والمكث فيه حتّى ينهدم ـ غاية ذاتيّة دائميّة ، وإذا نسب إلى مطلق دخول البيت للاستظلال كان اتّفاقا وغاية عرضيّة منسوبة إلى غير سببه الذاتيّ. والكلام في سائر الأمثلة الجزئيّة للاتّفاق على قياس هذين المثالين.
وقد تمسّك القائلون بالاتّفاق بأمثال هذه الأمثلة الجزئيّة الّتي عرفت حالها.
وقد نسب إلى ذيمقراطيس (١) أنّ كينونة العالم بالاتّفاق. وذلك أنّ الأجسام مؤلّفة من أجرام صغار صلبة منبثّة في خلاء غير متناه ، وهي متشاكلة الطبائع ، مختلفة الأشكال ، دائمة الحركة ، فاتّفق أن تصادفت منها جملة اجتمعت على هيئة خاصّة ، فكان هذا العالم ، ولكنّه زعم أنّ كينونة الحيوان والنبات ليست بالاتّفاق (٢).
ونسب إلى أنباذقلس (٣) أنّ تكوّن الأجرام الأسطقسيّة (٤) بالاتّفاق ، فما اتّفق منها أن اجتمعت على نحو صالح للبقاء والنسل بقى ، وما اتّفق أن لم يكن كذلك لم
__________________
(١) قد نسب إليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاولى من الفن الأوّل من طبيعيّات الشفاء.
(٢) وفي النسخ : «ليس باتّفاق» والصحيح ما أثبتناه.
(٣) قد نسب إليه الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاولى من الفن الاوّل من طبيعيات الشفاء.
(٤) الأسطقس : الأصل والعنصر. والعناصر على زعم الأقدمين أربعة : الماء والأرض والهواء والنار. وعند المتأخّرين كثيرة.
وأمّا الأجرام الأسطقسيّة فهي الأجرام الحاصلة من تركيب العناصر.