يبق وتلاشى. وقد احتجّ على ذلك بعدّة حجج (١) :
الحجّة الاولى : أنّ الطبيعة لا رويّة لها (٢) فكيف تفعل فعلها لأجل غاية؟
واجيب عنها (٣) : بأنّ الرويّة لا تجعل الفعل ذا غاية ، وإنّما تميّز الفعل من غيره وتعيّنه ، ثمّ الغاية تترتّب على الفعل لذاتها لا بجعل جاعل ، فاختلاف الدواعي والصوارف هو المحوج لإعمال الرويّة المعيّنة ، ولو لا ذلك لم يحتج إليها ، كما أنّ الأفعال الصادرة عن الملكات كذلك ، فالمتكلّم بكلام يأتي بالحرف بعد الحرف على هيئاتها المختلفة من غير رويّة يتروّى بها ، ولو تروّى لتبلّد وانقطع عن الكلام. وكذا أرباب الصناعات في صناعاتهم لو تروّى في ضمن العمل واحد منهم لتبلّد وانقطع.
الحجّة الثانية : أنّ في نظام الطبيعة أنواعا من الفساد والموت ، وأقساما من الشرّ والمساءة ، في نظام لا يتغيّر ، عن أسباب لا تتخلّف ، وهي غير مقصودة للطبيعة ، بل لضرورة المادّة ، فلنحكم أنّ أنواع الخير والمنافع المترتّبة على فعل الطبيعة أيضا على هذا النمط من غير قصد من الطبيعة ولا داع يدعوها إلى ذلك.
واجيب عنها (٤) : بأنّ ما كان من هذه الشرور من قبيل عدم بلوغ الفواعل الطبيعيّة غاياتها لانقطاع حركاتها ، فليس من شرط كون الطبيعة متوجّهة إلى غاية أن تبلغها ، وقد تقدّم الكلام في الباطل (٥). وما كان منها من قبيل الغايات الّتي هي شرور ـ وهي على نظام دائميّ ، فهي امور خيرها غالب على شرّها ـ فهي غايات بالقصد الثاني ، والغايات بالقصد الأوّل هي الخيرات الغالبة اللازمة لهذه الشرور ، وتفصيل الكلام في هذا المعنى في بحث القضاء (٦). فمثل الطبيعة في أفعالها الّتي
__________________
(١) وتعرّض لها الشيخ الرئيس في الفصل الرابع عشر من المقالة الاولى من طبيعيّات الشفاء.
(٢) الرويّة : النظر والتفكّر في الامور.
(٣ و ٤) المجيب هو صدر المتألّهين في الأسفار ٢ : ٢٥٧ و ٢٥٨ ، وشرح الهداية الأثيريّة : ٢٤٢ و ٢٤٣.
(٥) تقدّم في الفصل السابق.
(٦) يأتي في الفصل الثامن عشر من المرحلة الثانية عشرة.