وهذه الحدود جهات وجوديّة تلازمها سلوب كما تبيّن آنفا (١) ، ولها صور علميّة في نشأة المثال الّتي فوق نشأة المادّة تتقدّر بها صفات الأشياء وآثارها ، فلا سبيل لشيء منها إلّا إلى صفة أو أثر هداه إليه التقدير.
فإن قلت : لازم هذا البيان كون الإنسان مجبرا غير مختار في أفعاله.
قلت : كلّا ، فإنّ الاختيار أحد الشرائط الّتي يحدّ بها فعل الإنسان. وقد فصّلنا القول في دفع هذه الشبهة في مباحث الوجود (٢) وفي مباحث العلّة والمعلول (٣).
فإن قلت : هلّا عمّمتم القول في القدر ، وهو ضرب الحدود للشيء من حيث صفاته وآثاره في علم سابق يتبعه العين حتّى يعمّ الماهيّات الإمكانيّة ، فإنّ الماهيّات أيضا حدود لموضوعاتها تتميّز من غيرها وتلازمها سلوب لا تتعدّاها. وقد تقدّم أنّ كلّ ذي ماهيّة فهو ممكن (٤) وأنّ الممكن مركّب الذات من الإيجاب والسلب (٥) فيعمّ القدر كلّ ممكن ، سواء كان عقلا مجرّدا أو مثالا معلّقا أو طبيعة مادّيّة ، ويكون العلم السابق الّذي يتقدّر به الشيء علما ذاتيّا.
وبالجملة : يكون القدر بحسب العين هو التعيّن المنتزع من الوجود العينيّ ، والتقدير هو التعيين العلميّ الّذي يتبعه العين ـ كما أنّ المقضيّ هو الوجوب المنتزع من الوجود العينيّ ، والقضاء هو الإيجاب العلميّ الّذي يستتبعه ـ سواء كان من حيث الماهيّة والذات أو من حيث الصفات والآثار.
قلت : كون الماهيّة حدّا ذاتيّا للممكن لا ريب فيه ، لكنّهم راعوا في بحث القدر ظاهر مفهومه ، وهو الحدّ الّذي يلحق الشيء فيما هو موضوع له من الصفات والآثار دون أصل الذات ، فلا يعمّ ما وراء الطبائع الّتي لها تعلّق مّا بالمادّة.
وغرضهم من عقد هذا البحث بيان أنّ الممكن ليس مرخى العنان فيما يلحق به من الصفات والآثار مستقلّا عن الواجب تعالى فيما يتّصف به أو يفعل ، بل الأمر
__________________
(١) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.
(٢) راجع الفصل الخامس من المرحلة الرابعة.
(٣) راجع الفصل الثالث من المرحلة الثامنة.
(٤) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الرابعة.
(٥) راجع الفصل الرابع من هذه المرحلة.