وتتصوّر هذه الكثرة على أحد وجهين : إمّا طولا وإمّا عرضا.
فالأوّل ـ وهو حصول الكثرة طولا ـ : أن يوجد عقل ثمّ عقل وهكذا. وكلّما وجد عقل زادت جهة أو جهات ، حتّى ينتهي إلى عقل تتحقّق به جهات من الكثرة تفي بصدور النشأة الّتي بعد نشأة العقل ، فهناك أنواع متباينة من العقول ، كلّ منها منحصر في فرد ، وهي مترتّبة نزولا ، كلّ عال أشدّ وأشرف ممّا هو بعده وعلّة فاعلة تامّ الفاعليّة له ، لما أنّ إمكانه الذاتيّ كاف في صدوره ، وآخر هذه العقول علّة فاعلة للنشأة الّتي بعد نشأة العقل. وهذا الوجه هو الّذي يميل إليه المشّاؤون (١) فيما صوّروه من العقول العشرة ونسبوا إلى آخرها المسمّى عندهم ب «العقل الفعّال» إيجاد عالم الطبيعة.
والثاني ـ وهو حصول الكثرة عرضا ـ : بأن تنتهي العقول الطوليّة إلى عقول عرضيّة ، لا علّيّة ولا معلوليّة بينها ، هي بحذاء الأنواع المادّيّة ، يدبرّ كلّ منها ما بحذائه من النوع المادّيّ ، وبها توجد الأنواع الّتي في عالم الطبيعة وينتظم نظامه ، وتسمّى هذه العقول : «أرباب الأنواع» و «المثل الأفلاطونيّة» (٢).
وهذا الوجه هو الّذي يميل إليه الإشراقيّون ، وذهب إليه شيخ الإشراق (٣) ، واختاره صدر المتألّهين قدسسره (٤). واستدلّ عليه بوجوه :
__________________
(١) راجع الفصل الرابع والفصل الخامس من المقالة التاسعة من إلهيّات الشفاء ، والنجاة : ٢٧٣ ـ ٢٧٨ ؛ والمبدأ والمعاد للشيخ الرئيس : ٧٥ ـ ٨٢ ، ورسائل ابن سينا : ٨٩.
(٢) قال صدر المتألّهين : «قد نسب إلى أفلاطون الإلهيّ أنّه قال في كثير من أقاويله موافقا لاستاذه سقراط : إنّ للموجودات صورا مجرّدة في عالم الإله ، وربّما يسمّيها المثل الإلهيّة ، وإنّها لا تدثر ولا تفسد ولكنها باقية ، وإنّ الّذي يدثر ويفسد إنّما هي الموجودات الّتي هي كائنة». راجع الأسفار ٢ : ٤٦.
(٣) راجع حكمة الإشراق : ١٤ ـ ١٤٤ ، وشرح حكمة الإشراق : ٣٤٢ ـ ٣٥٦ و ٢٥١ ـ ٢٥٤ ، والمطارحات : ٤٥٥ ـ ٤٥٩.
(٤) راجع الأسفار ٢ : ٤٦ ـ ٨١ ، وج ٧ : ١٦٩ ـ ١٧١ و ٢٥٨ ـ ٢٨١.