فإن قيل (١) : لازم ذلك أن تكون النفس الإنسانيّة لتجرّدها عاقلة لنفسها ولكلّ مجرّد مفروض (٢) وهو خلاف الضرورة.
قلنا (٣) : هو كذلك لو كانت النفس المجرّدة مجرّدة تجرّدا تامّا ذاتا وفعلا ، لكنّها مجرّدة ذاتا ومادّية فعلا ، فهي لتجرّدها ذاتا تعقل ذاتها بالفعل ، وأمّا تعقّلها لغيرها فيتوقّف على خروجها من القوّة إلى الفعل تدريجا بحسب الاستعدادات المختلفة الّتي تكتسبها. فلو تجرّدت تجرّدا تامّا ولم يشغلها تدبير البدن حصل لها (٤) جميع التعقّلات حصولا بالفعل بالعقل الإجماليّ وصارت عقلا مستفادا (٥).
__________________
(١) هذا الإشكال أورده بعض من عاصر الشيخ الرئيس عليه ، كما نقل في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٧٣ والأسفار ٣ : ٤٥٨.
(٢) فكانت عالمة بجميع المعلومات ، وهو خلاف الوجدان.
(٣) كما أجاب عنه الشيخ الرئيس على ما في المباحث المشرقيّة ١ : ٣٧٣ ، والأسفار ٣ : ٤٥٨ ـ ٤٥٩.
(٤) وفي النسخ : «حصلت له» والصحيح ما أثبتناه.
(٥) وناقش فيه صدر المتألّهين ثمّ أجاب عن الاشكال بوجه آخر :
أمّا المناقشة فحاصلها : أنّ كلام الشيخ غير واف بالمقصود ، إذ يمكن أن يقال : إنّ النفس الناطقة عند الشيخ جوهر مجرّد موجود بالفعل بحسب ذاته الجوهريّة ولا يكتنفه شيء من العوارض المادّيّة. والبرهان المذكور ـ إن تمّ ـ جار في كلّ ذات مجرّدة ، فيجب أن تكون كلّ نفس ـ لو فرض زوال المادّة عنها ورفع شواغلها بالكلّيّة ـ عاقلة بجميع المعقولات دفعة واحدة بلا اكتساب ، لكن التالي باطل ، فإنّ من المعلوم أنّ نفوس الصبيان ـ لو فرض زوال المادّة عنها ورفع شواغلها بالكلّيّة عن ذواتهم ـ لا تكون عالمة بجميع المعقولات دفعة واحدة ، وإذا بطل التالي بطل المقدّم.
وأمّا الجواب عن الإشكال فقال : «إنّ النفس الإنسانيّة في أوائل نشأتها ليست عقلا بالفعل ، لأنّها وإن تجرّدت عن المادّة الطبيعيّة وصورها الطبيعيّة لكنّها غير مجرّدة عن الصورة الخياليّة. ودلائل اثبات تجرّدها إنّما يدلّ على تجرّدها عن العالم الطبيعيّ. فللنفوس غير النشأة الحسّيّة نشأتان اخريان : نشأة الخيال ونشأة العقل. فكلّ نفس إنسانيّة إذا استحكم فيه إدراك الصور الخياليّة حتّى يصير خيالا بالفعل ومتخيّلا. فحينئذ يتحقّق فيه أنّ ذاته مجرّدة عن هذا العالم الحسّيّ الوضعيّ. وجميع ما فيه من ذوات الجهات والأوضاع ـ