وأمّا ما استشكل به في العلم الحضوريّ فليتذكّر أنّ للموجود المعلول اعتبارين : اعتباره في نفسه ـ أي مع الغضّ عن علّته ـ فيكون ذا ماهيّة ممكنة موجودا في نفسه طاردا للعدم عن ماهيّته يحمل عليه وبه ، واعتباره بقياس وجوده إلى وجود علّته. وقد تقدّم في مباحث العلّة والمعلول (١) أنّ وجود المعلول ـ بما أنّه مفتقر في حدّ ذاته ـ وجود رابط بالنسبة إلى علّته ، لا نفسيّة فيه ، وليس له إلّا التقوّم بوجود علّته من غير أن يحمل عليه بشيء أو يحمل به على شيء.

إذا تمهّد هذا ففيما كان العالم هو العلّة والمعلوم هو المعلول كانت النسبة بينهما نسبة الرابط والمستقلّ النفسيّ ، وظاهر أنّ الموجود الرابط يأبى الموجوديّة لشيء ، لأنّها فرع الوجود في نفسه وهو موجود في غيره ، ومن شرط كون الشيء معلوما أن يكون موجودا للعالم (٢) ، لكنّ المعلول رابط متقوّم بوجود العلّة ـ بمعنى ما ليس بخارج وليس بغائب عنها ـ فكون وجوده للعلّة إنّما يتمّ بمقوّمه الّذي هو وجود العلّة ، فمعلوم العلّة (٣) هو نفسها بما تقوّم وجود المعلول ، فالعلّة تعقل ذاتها والمعلول غير خارج منها ، لا بمعنى الجزئيّة والتركّب (٤). والحمل بينهما (٥) حمل المعلول متقوّما بالعلّة على العلّة ، وهو نوع من حمل الحقيقة والرقيقة. ونظير الكلام يجري في العلم بالرابط ، فكلّ معلوم رابط معلوم بالعلم بالمستقلّ الّذي يتقوّم به ذاك الرابط.

وفيما كان العالم هو المعلول والمعلوم هو العلّة ـ لمّا كان من الواجب وجود المعلوم للعالم ويستحيل في الوجود الرابط أن يوجد له شيء ـ إنّما يتمّ وجود العلّة للمعلول بتقوّمه بالعلّة ، فالعلّة بنفسها موجودة لنفسها ـ والحال أنّ المعلول غير

__________________

(١) راجع الفصل الأوّل من المرحلة الثامنة.

(٢) أي : موجودا لغيره ، وهو فرع كونه موجودا في نفسه.

(٣) أي : معلوم العالم الّذي هو العلّة.

(٤) بل بمعنى أنّ المعلول مرتبة دانية لوجود العلّة ، والعلّة مرتبة عالية لوجود المعلول.

(٥) أي : بين العالم والمعلوم.

۳۳۶۱