أما الأول ، فحيث عرفت أن التحسين والتقبيح العقليّين مما توافقت عليه آراء العقلاء للمصلحة العامة أو للمفسدة العامة ، فلا محالة لا يعقل الحكم على خلافه من الشارع ، إذ المفروض أنه مما لا يختص به عاقل دون عاقل ، وأنه بادي رأي الجميع لعموم مصلحته ، والشارع من العقلاء ، بل رئيس العقلاء ، فهو بما هو عاقل كسائر العقلاء ، وإلا لزم الخلف من كونه بادي رأي الجميع ، فالعدل بما هو عدل حسن عند جميع العقلاء ومنهم الشارع ، والظلم بما هو ظلم قبيح عندهم ومنهم الشارع.
نعم تفاوت الأنظار في كون الفعل الكذائي عدلا أو ظلما أمر معقول لا يوجب انتفاض هذه الكلية ، ففي موضوعي العدل والظلم لا يعقل الحكم من الشارع بما هو شارع على خلافه ، لتنزّه ساحته عن الاقتراحات الغير العقلائيّة ، فلا يعقل مع انحفاظ حيثية العاقليّة أن لا يكون حاكما بما يحكم به العقلاء.
وأولى بذلك ما إذا قيل بثبوت استحقاق المدح والذم في الواقع ونفس الأمر ، فان ثبوت شيء في نفس الأمر متساوي النسبة إلى العقلاء وإلى الشارع ، ففرض استحقاق الذم والمدح واقعا وعدم ثبوته عند الشارع متنافيان.
وأما ما عن المحقق الحكيم السبزواري (١) « رحمه الله » من أن كل ما هو ممدوح أو مذموم في نفس الأمر ، فهو ممدوح أو مذموم عند الله ، وإلا لزم جهله بما في نفس الأمر.
فهو إنما يتوجه إذا كان المراد من ثبوتهما عند الشارع كثبوتهما عقلا بنحو الثبوت العلمي ، فانه الذي يلزم من عدمه جهله تعالى بما في نفس الأمر.
وأما إذا كان الغرض من هذا النزاع استحقاق الثواب والعقاب من الشارع بعد حكم العقل باستحقاقهما واقعا فاللازم الفاسد من عدمه هو
__________________
(١) شرح الأسماء ص ١٠٧.