الشكلين ، كما أثبتنا انَّ الشكل الثاني منه ينطبق على إثبات العلة الأولى للكون وهو الصانع سبحانه وتعالى بنفس الملاك المنطقي المنطبق في العلوم التجريبية الطبيعية بحيث يكون أساس العلم والإيمان بالله من الناحية المنطقية واحداً.
وقد أورد المفكّر الأوربي ( راسل ) على هذا الاستدلال باعتراضات ليس هنا مجال ذكرها وانَّما نقتصر على واحد من أهمّها وهو دعوى : انَّ هذا الدليل الاستقرائي انَّما يتمّ في العلوم الطبيعية التجريبية لوقوع التكرار فيها وامَّا في عالم الطبيعة فنحن لم نعاصر عوالم متعددة متكررة كعالمنا ونجد لكل منها خالقاً لكي نستنتج ذلك في حقّ عالمنا أيضا.
وهذا الاعتراض واضح الجواب على ضوء تحديد جوهر منطق الاستقراء فان التكرار بما هو تكرار لا أثر له وانَّما الميزان وملاك الكشف هو العلم الإجمالي وانقسامه على أطرافه بالنحو المتقدّم شرحه ، وهذا كما ينطبق في القضايا التكرارية كذلك في غير التكرارية إذا كانت الفرضيات الأخرى غير فرضية وجود الصانع الحكيم فرضيات كثيرة تكون قيمتها الاحتمالية ضئيلة إلى حدّ لا نهائي بالنحو الّذي أشرنا إليه في مثال كتب بحث الوضوء.
هذا كلّه في القضية التجريبية.
وامَّا المتواترة فهي بحسب الحقيقة ترجع إلى الشكل الثاني من الشكلين المتقدمين حيث انَّ فرضية صدق القضية ووقوع الحادثة المخبر عنها بالتواتر بنفسها علة مشتركة للاخبار بحسب طبع الإنسان ، فافتراض وقوعها يشكل وجود العلة لتفسير كلّ تلك الإخبارات وهذا بخلاف ما إذا افترضنا عدمها وان كلّ اخبار من تلك الإخبارات كان على أساس مصلحة معينة لصاحبه فان حساب الاحتمالات يضعف احتمال تلك الافتراضات لعدم كونها احتمالات متلازمة حتى تتضاءل درجتها جداً بتكثر الاخبار وتواترها ، وامَّا وصولها إلى اليقين فبمقتضى ما تفضل به الله سبحانه على الإنسان من الضابط الذاتي لانطفاء القيم الاحتمالية والكسرية الضعيفة جداً ولو لا ذلك لما كان يمكنه أن يقطع بشيء إطلاقاً ، على ما شرحنا ذلك في الأسس المنطقية للمرحلة الذاتيّة من الاستقراء.