المقام الثالث ـ في دعوى قصور الدليل العقلي من حيث المنجزية والمعذرية بعد الفراغ في المقامين السابقين عن عدم قصوره في كاشفيته وعدم ضيق في الجعل المستكشف به. وذلك بدعوى نهي الشارع عن اتباعه ، وهذا النهي كما ذكر الشيخ الأعظم ( قده ) يمكن أن يفترض تارة نهيا عن الدليل العقلي بعد حصول اليقين به ، وأخرى نهيا عن التوجه إلى ميدان الاستدلالات العقلية وصرف الذهن عن هذا المجال إلى الأدلة النقليّة. والأول غير معقول على ما تقدم شرحه في البحوث السابقة ، وانما المعقول هو الثاني لأنه يرجع إلى تنجيز الواقع من أول الأمر من ناحية ما يؤدي إليه التوجه إلى المطالب العقلية من الوقوع في المخالفة ، والمكلف بعد أن حصل له القطع وإن كان مضطرا إلى العمل على وفق قطعه لكونه حجة بالذات عليه إلا ان اضطراره هذا مسبوق بسوء اختياره فلا ينافي تنجز الواقع في مورد قطعه عليه أيضا إذا صادف مخالفة الواقع نظير من توسط الدار المغصوبة فاضطر إلى الغصب في حال الخروج بسوء اختياره.
والفرق العملي بين النحوين يظهر فيما إذا صادف حصول القطع من الدليل العقلي للمكلف صدفة لا بتسبيب منه وتوجه إلى باب الأدلة والاستدلالات العقلية فانه إذا كان النهي بالنحو الأول بناء على معقوليته كان مشمولا له وإذا كان بالنحو الثاني لم يكن مشمولا له كما هو واضح.
هذا إلا ان الشأن في ثبوت مثل هذا النهي إذ لا دليل عليه عدى ما يتوهم من إمكان دعوى استفادته من الروايات الناهية عن العمل بالرأي بدعوى صدقها على العمل بالأدلة العقلية.
والصحيح ـ ان من يلاحظ هذه الروايات وألسنتها وملابساتها وتاريخ صدورها لا يكاد يشك في ان المقصود من الرّأي فيها ما كان مطروحا وقتئذ من الاعتماد على الأقيسة والاستحسانات الظنية والاستقلال في مقام الاستنباط عن الأئمة : بالرجوع مباشرة إلى الكتاب أو السنة أو العقل من دون مراجعتهم في الوقوف على المخصص أو المقيد أو المفصل والمبين كما كان على ذلك ديدن فقهاء العامة والجمهور ، هذا مجمل الجواب على التمسك بهذه الروايات ولو سلم إطلاق الرّأي فيها على القطع الحاصل