وراء مواقف العقلاء قضايا واقعية يدركها العقل العملي هي قضايا الحسن والقبح وإلا فان أريد إقامة البرهان على الخلاف فمن أين يعرف حال العاقل الأول وانه كان يدرك الحسن والقبح أولا؟ فلعل إحساسنا بهذا الوجدان من تأثير بناء العقلاء.
والصحيح : بعد وجدانية ان قضايا الحسن والقبح ليست مدركة على أساس انها تشريعات لمواقف اعتبارية عقلائية ، ان هذه الفرضية تربط بين القبح والحسن والمفسدة والمصلحة وتجعل إدراك الأخيرين سببا لجعل الأولين وهذا لا ينسجم مع الوجدانات الأخلاقية في باب الحسن والقبح لأنها تبرهن على انهما باب مستقل ومفصول عن باب المصلحة والمفسدة ، ولهذا كان التجري قبيحا رغم عدم المفسدة في نفس الفعل وهناك كثير من موارد الحسن والقبح قد لا يكون في الفعل مفسدة أو مصلحة ، ومما ينبه إلى هذا عدم إجراء باب التزاحم بين القبيح والمصلحة أو الحسن والمفسدة ، فالظلم لا يكون حسنا مهما ترتب عليه مصلحة والعدل لا يكون قبيحا مهما نتج منه ضرر وخسارة خارجا طالما هو عدل.
الفرضية الثانية ـ ان الحسن والقبح قضايا مشهورة بمعنى انها تصديقات جازمة ولكن غير مضمونة الحقانية ، أي ليس التصديق الجازم فيها ناشئا من أحد المناشئ في القضايا المضمونة التي حصروها في القضايا الست الأولية المعروفة في المنطق ، فان إدراك العقل لحسن العدل وقبح الظلم ليس من المدركات الأولية لا للعقل ولا للحس ولا للوهم ، وانما يحصل التصديق الجازم بها نتيجة التأديب والتربية الاجتماعية العقلائية. وقد صرح ابن سينا بان الإنسان لو خلق فريدا وحيدا لما أدرك بعقله حسن العدل أو قبح الظلم.
وتقريب عدم كونها من القضايا الأولية المضمونة مبني على تشخيص الميزان في كون قضية أولية أم لا ، وهذا الميزان يمكن أن يجعل أحد امرين.
١ ـ ان القضية الأولية هي التي تكون جهة القضية ضرورية أي ضرورية المدرك لا الإدراك نفسه ، فان القضية إذا كان ثبوت الحكم فيها للموضوع بالضرورة كما في الأربعة زوج قضية أولية مضمونة الحقانية.
وهذا الميزان منطبق في قضايا العقل العملي فان العدل حسن بالضرورة والظلم