ثم العقل المفارق أقل حدودا وقيودا ، وأوسع وأبسط وجودا من المثال المجرد ، وكلما كان الوجود أقوى وأوسع ، كانت مرتبته في السلسلة المترتبة ، من حقيقة الوجود المشككة أقدم ، ومن المبدإ الأول ، الذي هو وجود صرف ، ليس له حد يحده ولا كمال يفقده ، أقرب فعالم العقل أقدم وجودا من الجميع ، ويليه عالم المثال ويليه عالم المادة.
ويتبين بما ذكر ، أن الترتيب المذكور ترتيب في العلية ، أي إن عالم العقل علة مفيضة لعالم المثال ، وعالم المثال علة مفيضة لعالم المادة.
ويتبين أيضا بمعونة ما تقدم ، من أن العلة مشتملة على كمال المعلول ، بنحو أعلى وأشرف ، أن العوالم الثلاثة متطابقة متوافقة ، ففي عالم المثال نظام مثالي يضاهي النظام المادي ، وهو أشرف منه وفي عالم العقل ما يطابقه ، لكنه موجود بنحو أبسط وأجمل ، ويطابقه النظام الربوبي ، الموجود في علم الواجب تعالى.
الفصل العاشر
في العقل المفارق وكيفية حصول
الكثرة فيه لو كانت فيه كثرة
وليعلم أن الماهية ، لا تتكثر تكثرا إفراديا إلا بمقارنة المادة ، والبرهان عليه ، إن الكثرة العددية ، إما أن تكون تمام ذات الماهية ، أو بعض ذاتها ، أو خارجة من ذاتها إما لازمة أو مفارقة ، والأقسام الثلاثة الأول يستحيل أن يوجد لها فرد ، إذ كلما وجد لها فرد كان كثيرا ، وكل كثير مؤلف من آحاد ، والواحد منها يجب أن يكون كثيرا ، لكونه مصداقا للماهية ، وهذا الكثير أيضا مؤلف من آحاد ، فيتسلسل ولا ينتهي إلى واحد ، فلا يتحقق لها واحد ، فلا يتحقق كثير هذا خلف ، فلا تكون الكثرة إلا خارجة مفارقة ، يحتاج لحوقها