قالوا : إن ذلك لا يخرج الحكم عن الأحكام العقلية كما توهمه الأشاعرة ، فإن العقل العملي يدبر مصالح نوع الإنسان ، فإذا كان شيء كالصدق ذا مصلحة أدرك حسنه وجعل فاعله مستحقا للمدح ، وإذا اقترن بالمفسدة الملزمة الاجتماعية أدرك قبحه وجعل فاعله مستحقا للذم ، فحكم العقل العملي يتغير بحسب تغير المصالح والمفاسد ، ولا يقاس بالعقل النظري الذي لا تغير فيه ، فالعقلاء يحكمون بالعقل العملي ، بحسن العدل وقبح الظلم باعتبار المصالح والمفاسد النوعية ، لا بما هو عدل أو ظلم ، فالتغير لا يخرج الحكم عن الحكم العقلي.
وفيه أن الأظهر أن الإنسان لو خلّي وعقله المجرد ، يقضي بالبداهة بحسن العدل وقبح الظلم ؛ لكون العدل كمالا لفاعله وملائما ، للغرض من خلقته والظلم نقصا ومنافرا ، ولا يتوقف حكمه المذكور على تحقق الاجتماع البشري ، وتطابق آرائهم فإن لقضية الحسن والقبح واقعا في نفس الأمر ، وهو كمال العدل وملائمته ونقصان الظلم ومنافرته ، سواء كان اجتماع أم لا ، وسواء أطبقوا على حسنه أم لا ، وهذا الكمال أو النقص هو الذي يدعو الانسان إلى المدح أو الذم ، كما قاله المحقق اللاهيجي (١) ، ولذا نقول : إن التحسين والتقبيح الذاتيين جاريان في حق الإنسان الأولي ولو كان واحدا ، فإنه يجب عليه بحكم قاعدة الحسن والقبح معرفة الباري تعالى ؛ لقبح تضييع حقّ المولى ، وحسن شكر المنعم ، ويحكم بعقله على وجوب إرسال النبيّ ، لاهتدائه إلى وظائفه ، وعلى قبح العقاب بلا بيان ، وغير ذلك من الأحكام العقلية البديهية ، وهذه الاحكام لا تتوقف على وجود الاجتماع ، فضلا عن تطابق آرائهم عليه ، ولها واقع وراء الاجتماع البشري ، وآرائهم ، وليس ذاك إلّا كمال العدل وملائمته
__________________
(١) گوهر مراد : ص ٢٤٦.