وثالثا : إن ما استدل به ليس بظاهر في مدعاه ، بل لعله اجمال للتفصيل المذكور في سائر الأخبار ، ولذلك أورد عليه العلّامة الطباطبائي ـ قدسسره ـ بأن مرجع الخبر المذكور ، مع الخبر الذي اعترف بظهوره في المعنى المختار واحد ، وهو الذي يشاهده كل إنسان من نفسه عيانا ، وهو أنه مع قطع النظر عن سائر الأسباب من الموجبات والموانع ، يملك اختيار الفعل والترك ، فله أن يفعل وله أن يترك ، وأما كونه مالكا للاختيار فإنما ملكه اياه ربه سبحانه ، كما في الأخبار ، ومن أحسن الأمثلة لذلك مثال المولى إذا ملك عبده ما يحتاج إليه في حياته ، من مال يتصرف فيه ، وزوجة يأنس إليها ، ودار يسكنها وأثاث ومتاع ، فإن قلنا : إن هذا التمليك يبطل ملك المولى كان قولا بالتفويض ، وإن قلنا : إن ذلك لا يوجب للعبد ملكا والمولى باق على مالكيته كما كان ، كان قولا بالجبر ، وإن قلنا : إن العبد يملك بذلك ، والمولى مالك لجميع ما يملكه في عين ملكه ، وأنه من كمال ملك المولى كان قولا بالأمر بين الأمرين (١).
ثم لا يخفى أن صاحب البحار حكى عن بعض ، أنه ذهب إلى أن المراد من الأمر بين الأمرين ، هو أن الأسباب القريبة للفعل يرجع إلى قدرة العبد ، والأسباب البعيدة كالآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى إلى قدرة الرب تعالى فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين (٢).
وفيه أولا : أنه غير واضح المراد ، فإن الآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى ، إذا رجعت إلى قدرة الرب المتعال ، فاي شيء يبقى حتى يرجع إلى قدرة العبد ، اللهم إلّا أن يريد من الأسباب القريبة ، إرادة الفاعل. هذا مضافا إلى ما في جعل الأعضاء والجوارح والقوى من الأسباب البعيدة.
وثانيا : أن التفويض بهذا المعنى عين ما ورد النصوص على خلافه ، فإن
__________________
(١) بحار الأنوار : ج ٥ ذيل ص ٨٣.
(٢) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٨٤ نقلا عن بعض.