وأما في الانتقال الثاني ، أي انتقال المتكلم إلى المعنى الّذي يستتبع الانتقال إلى اللفظ ، فاللفظ مرآتيته هنا أيضا بمعنى كونه مغفولا عنه وكون توجه المتكلم منصبا على المعنى وقصد تفهيمه ، وأما أداة التفهيم التي هي اللفظ فلا يتوجه إليها إلا تبعا ، كما هو الشأن في كل أداة نشأت العادة على استعمالها لأغراض معينة على نحو أصبح استعمالها شبه عمل آلي يمارسه الإنسان شبه ممارسة تلقائية ، فمن اعتاد أن يكتب بالقلم متى قصد الكتابة ـ إذا أراد أن يكتب في وقت ما ـ مد يده إلى القلم وكتب به بدون توجه تفصيلي إلى الأداة وإنما توجهه منصب على ما يكتب وليست الأداة ملتفتا إليها إلا تبعا ، وهذا نحو من الآلية ملحوظ في كل أداة من هذا القبيل.
وعلى هذا الأساس تتضح أمور :
الأول : ان الآلية بالمعنى الّذي ذكرناه في كلا الانتقالين أمر يقتضيه طبع المطلب ولكنها ليست من مقومات عملية تفهيم المعنى باللفظ أو افهام المعنى من اللفظ ، إذ يمكن لكل من المتكلم والسامع أن يتوجه إلى اللفظ وإلى المعنى توجها مستقلا. وتوهم : أن النّفس لبساطتها لا يعقل أن تتوجه إلى شيئين استقلالا في عرض واحد. مدفوع : بأن بساطتها بمعنى لا ينافي ذلك ، ولهذا كانت النّفس تتوجه إلى الموضوع والمحمول استقلالا في مقام عقد القضية في وقت واحد.
الثاني : أن انتقال السامع من اللفظ إلى المعنى يختلف عن انتقال الشخص من ملاحظة العمود إلى معرفة المسافة في أن اللفظ في الانتقال الأول يكون مغفولا عنه عادة بخلاف العمود في الانتقال الثاني ، وذلك لأن الانتقال الأول انتقال تصوري ويمثل التلازم بين تصورين على أساس الأشراط والاقتران المؤكد ، وقانون الاقتران يقتضي أن يكون أحد التصورين بوجوده الذهني سببا للتصور الآخر ، سواء التفت إليه من قبل النّفس بتوجه تفصيلي أو لا ، ويقتضي أن يكون الإحساس المثير لأحد التصورين صالحا لإثارة التصور الآخر مباشرة. وأما الانتقال الثاني فهو انتقال تصديقي ودلالة العلامة على ذيها دلالة تصديقية ، ولهذا لا يكفي الإحساس بها للتصديق بذيها ، فان التصديق بأحد المتلازمين يتوقف على التصديق بالآخر فما لم يتحول الإحساس بالعلامة إلى التصديق بوجودها المساوق حدوثا للالتفات إليها لا يحصل