اللاحق ، بل من جهة الاهتمام بالمقتضيات ، والتحفّظ على الأغراض الواقعيّة.
فإنّ كلّ هذه التأويلات إنّما نلتجئ إليها إذا عجزنا عن تصحيح وصف نفس الاستصحاب بالحجّة ، وقد عرفت صحّة وصفه بالحجّة بمعناها اللغويّ.
ثمّ لا شكّ في أنّ الموصوف بالحجّة في لسان الأصوليّين نفس الاستصحاب ، لا اليقين المقوّم لتحقّقه ، ولا الظنّ بالبقاء ، ولا مجرّد الكون السابق ، وإن كان ذلك كلّه ممّا يصحّ وصفه بالحجّة.
هل الاستصحاب أمارة ، أو أصل؟
بعد أن تقدّم أنّه لا يصحّ وصف قاعدة العمل للشاكّ ـ أيّة قاعدة كانت ـ بالحجّة في باب الأمارات يتّضح لك أنّه لا يصحّ وصفها بالأمارة ؛ فإنّه تكون أمارة على أيّ شيء؟ وعلى أيّ حكم؟ ولا فرق في ذلك بين قاعدة الاستصحاب ، وبين غيرها من الأصول العمليّة ، والقواعد الفقهيّة ؛ إذ أنّ قاعدة الاستصحاب في الحقيقة مضمونها حكم عامّ ، وأصل عمليّ يرجع إليها المكلّف عند الشكّ والحيرة في بقاء ما كان. ولا يفرق في ذلك بين أن يكون الدليل عليها الأخبار ، أو غيرها من الأدلّة ، كبناء العقلاء ، وحكم العقل ، والإجماع. ولكنّ الشيخ الأنصاريّ رحمهالله فرّق في الاستصحاب بين أن يكون مبناه الأخبار فيكون أصلا ، وبين أن يكون مبناه حكم العقل فيكون أمارة. قال ما نصّه :
«إنّ عدّ الاستصحاب من الأحكام الظاهريّة الثابتة للشىء بوصف كونه مشكوك الحكم ، نظير أصل البراءة ، وقاعدة الاشتغال مبنيّ على استفادته من الأخبار. وأمّا : بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل ظنّيّ اجتهاديّ ، نظير القياس ، والاستقراء على القول بهما». (١)
أقول : وكأنّ من تأخّر عنه أخذ هذا الرأي إرسال المسلّمات. والذي يظهر من القدماء أنّه معدود عندهم من الأمارات ؛ كالقياس ، إذ لا مستند لهم عليه إلاّ حكم العقل. (٢) غير أنّ
__________________
(١) فرائد الأصول ٢ : ٥٤٣.
(٢) قال الشيخ الأنصاريّ : «ولكن ظاهر كلمات الأكثر : كالشيخ ، والسيدين ، والفاضلين والشهيدين ، وصاحب المعالم كونه حكما عقليّا ، ولذا لم يتمسّك أحد هؤلاء فيه بخبر من الأخبار». فرائد الأصول ٢ : ٥٤٣.