الثاني : ظهور الأمر بعد الحظر أو توهّمه.
قد يقع إنشاء الأمر بعد تقدّم الحظر ـ أي المنع ـ أو عند توهّم الحظر ، كما لو منع الطبيب المريض عن شرب الماء ، ثمّ قال له : «اشرب الماء». أو قال ذلك عند ما يتوهّم المريض أنّه ممنوع منه ومحظور عليه شربه.
وقد اختلف الأصوليون في مثل هذا الأمر أنّه هل هو ظاهر في الوجوب (١) ، أو ظاهر في الإباحة (٢) ، أو الترخيص فقط (٣) ـ أي رفع المنع فقط من دون التعرّض لثبوت حكم آخر من إباحة أو غيرها ـ ، أو يرجع إلى ما كان عليه سابقا قبل المنع (٤)؟ على أقوال كثيرة.
وأصحّ الأقوال هو الثالث ، وهو دلالتها على الترخيص فقط.
والوجه في ذلك أنّك قد عرفت أنّ دلالة الأمر على الوجوب إنّما تنشأ من حكم العقل بلزوم الانبعاث ما لم يثبت الإذن بالترك. ومنه تستطيع أن تتفطّن أنّه لا دلالة للأمر في المقام على الوجوب ؛ لأنّه ليس فيه دلالة على البعث وإنّما هو ترخيص في الفعل لا أكثر.
وأوضح من هذا أن نقول : إنّ مثل هذا الأمر هو إنشاء بداعي الترخيص في الفعل والإذن به ، فهو لا يكون إلاّ ترخيصا وإذنا بالحمل الشائع. ولا يكون بعثا إلاّ إذا كان الإنشاء بداعي البعث. ووقوعه بعد الحظر أو توهّمه قرينة على عدم كونه بداعي البعث ، فلا يكون دالاّ
__________________
(١) ذهب إليه بعض العامّة ، كالحنفيّة ، والمعتزلة ، والقاضي الباقلانيّ والفخر الرازيّ من الشافعيّة ، واختاره البيضاويّ في منهاج الأصول. فراجع فواتح الرحموت (المطبوع بذيل المستصفى ١ : ٣٧٩) ، ونهاية السئول ٢ : ٢٧٢ ، والإحكام (للآمديّ) ٢ : ٢٦٠.
(٢) لم أعثر على من قال بظهوره في الإباحة الاصطلاحيّة. وأمّا المنسوب إلى أكثر الفقهاء من القول بظهوره في الإباحة فالظاهر أنّه الإباحة بمعنى رفع الحجر والحظر. كما صرّح بذلك الآمديّ في الإحكام ٢ : ٢٦٠ ، والمحقّق القميّ في قوانين الأصول ١ : ٨٩ ، وبعض المحشّين على العدّة ١ : ١٨٣.
(٣) وهذا منسوب إلى أكثر الفقهاء. راجع العدّة ١ : ١٨٣ ، فواتح الرحموت (المطبوع بذيل المستصفى ١ : ٣٧٩) ، الإحكام (للآمديّ) ٢ : ٢٦٠. وذهب إليه المحقّق القميّ في قوانين الأصول ١ : ٨٩.
(٤) ذهب إليه السيد المرتضى في الذريعة إلى أصول الشريعة ١ : ٧٣. واختاره الشيخ الطوسيّ في العدّة ١ : ١٨٣.