مسألة
لا خلاف في مرجوحيّة تلقّي الركبان بالشروط الآتية، واختلفوا في حرمته وكراهته، فعن التقي والقاضي والحلّي والعلاّمة في المنتهي: الحرمة، وهو المحكي عن ظاهر الدروس وحواشي المحقّق الثاني.
وعن الشيخ وابن زهرة: لا يجوز. وأوَّلَ في المختلف عبارة الشيخ بالكراهة.
وهي أي الكراهة مذهب الأكثر، بل عن إيضاح النافع: أنّ الشيخ ادّعى الإجماع على عدم التحريم. وعن نهاية الإحكام: تلقّي الركبان مكروه عند أكثر علمائنا، وليس حراماً إجماعاً.
ومستند التحريم ظواهر الأخبار:
منها: ما عن منهال القصّاب، قال: «قال أبو عبد الله عليهالسلام: لا تلقّ، فإنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى عن التلقّي. قلت: وما حدّ التلقّي؟ قال: ما دون غدوة (طلوع آفتاب و زوال شمس) أو روحة (حرکت بین زوال شمس و غروب شمس)، قلت: وكم الغدوة والروحة؟ قال: أربعة فراسخ. قال ابن أبي عمير: وما فوق ذلك فليس بتلقٍّ».
وفي خبر عروة: «لا يتلقّى أحدكم تجارةً خارجاً من المصر، ولا يبيع حاضرٌ لبادٍ، والمسلمون يرزق الله بعضَهم من بعضٍ».
وفي روايةٍ أُخرى: «لا تلقِّ ولا تشترِ ما يتلقّى ولا تأكل منه».
وظاهر النهي عن الأكل كونه لفساد المعاملة، فيكون أكلاً بالباطل، ولم يقل به إلاّ الإسكافي.
وعن ظاهر المنتهي: الاتّفاق على خلافه، فتكون الرواية مع ضعفها مخالفة لعمل الأصحاب، فتقصر عن إفادة الحرمة والفساد.
نعم لا بأس بحملها على الكراهة لو وجد القول بكراهة الأكل ممّا يُشترى من المتلقّى، ولا بأس به حسماً لمادّة التلقّي.
وممّا ذكرنا يعلم: أنّ النهي في سائر الأخبار أيضاً محمولٌ على الكراهة، الموافقة للأصل مع ضعف الخبر ومخالفته للمشهور.
ثمّ إنّ حدّ التلقّي أربعة فراسخ، كما في كلام بعض. والظاهر أنّ مرادهم خروج الحدّ عن المحدود؛ لأنّ الظاهر زوال المرجوحيّة إذا كان أربعة فراسخ. وقد تبعوا بذلك مرسلة الفقيه.
وروى: «أنّ حدّ التلقّي روحة، فإذا بلغ إلى أربعة فراسخ فهو جَلب (تجارت و جلب منفعت است)»، فإنّ الجمع بين صدرها وذيلها لا يكون إلاّ بإرادة خروج الحدّ عن المحدود. كما أنّ ما في الرواية السابقة: أنّ حدّه «ما دون غدوة أو روحة» محمولٌ على دخول الحدّ في المحدود.
لكن قال في المنتهي: حدَّ علماؤنا التلقّي بأربعة فراسخ، فكرهوا التلقّي إلى ذلك الحدّ، فإن زاد على ذلك كان تجارةً وجلباً، وهو ظاهرٌ، لأنّ بمضيّه ورجوعه يكون مسافراً، ويجب عليه القصر فيكون سفراً حقيقيّا إلى أن قال: ولا نعرف بين علمائنا خلافاً فيه، انتهى.
والتعليل بحصول السفر الحقيقي يدلّ على مسامحة في التعبير، ولعلّ الوجه في التحديد بالأربعة: أنّ الحصول على الأربعة بلا زيادة ونقيصة نادر، فلا يصلح أن يكون ضابطاً لرفع الكراهة؛ إذ لا يقال: إنّه وصل إلى الأربعة إلاّ إذا تجاوز عنها ولو يسيراً.
فالظاهر أنّه لا إشكال في أصل الحكم وإن وقع اختلافٌ في التعبير في النصوص والفتاوى.
ثمّ إنّه لا إشكال في اعتبار القصد؛ إذ بدونه لا يصدق عنوان التلقّي، فلو تلقّى الركب في طريقه ذاهباً أو جائياً لم يكره المعاملة معهم. وكذا في اعتبار قصد المعاملة من المتلقّى، فلا يكره لغرضٍ آخر ولو اتّفقت المعاملة.
قيل: ظاهر التعليل في رواية عروة المتقدّمة اعتبار جهل الركب بسعر البلد.
وفيه: أنّه مبنيٌّ على عدم اختصاص القيد بالحكم الأخير، فيحتمل أن تكون العلّة في كراهة التلقي مسامحة الركب في الميزان بما لا يتسامح به المتلقي، أو مظنّة حبس المتلقّين ما اشتروه، أو ادّخاره عن أعين الناس وبيعه تدريجاً. بخلاف ما إذا أتى الركب وطرحوا أمتعتهم في الخانات والأسواق، فإنّ له أثراً بيّناً في امتلاء أعين الناس خصوصاً الفقراء وقت الغلاء إذا اتي بالطعام.
وكيف كان، فاشتراط الكراهة بجهلهم بسعر البلد محلّ مناقشة.
ثمّ إنّه لا فرق بين أخذ المتلقّى بصيغة البيع أو الصلح أو غيرهما. نعم، لا بأس باستيهابهم ولو بإهداء شيءٍ إليهم.
ولو تلقّاهم لمعاملات أُخر غير شراء متاعهم، فظاهر الروايات عدم المرجوحيّة.
نعم، لو جعلنا المناط ما يقرب من قوله عليهالسلام: «المسلمون يرزق الله بعضهم من بعض» قوي سراية الحكم إلى بيع شيءٍ منهم وإيجارهم المساكن والخانات.
كما أنّه إذا جعلنا المناط في الكراهة كراهة غبن الجاهل، كما يدلّ عليه النبويّ العاميّ: «لا تلقّوا الجَلَب، فمن تلقّاه واشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار» قوي سراية الحكم إلى كلّ معاملة توجب غبنهم، كالبيع والشراء منهم متلقّياً، وشبه ذلك. لكن الأظهر هو الأوّل.
وكيف كان، فإذا فرض جهلهم بالسعر فثبت لهم الغبن الفاحش كان لهم الخيار. وقد يحكى عن الحلّي ثبوت الخيار وإن لم يكن غبن، ولعلّه لإطلاق النبويّ المتقدّم المحمول على صورة تبيّنِ الغبن بدخول السوق والاطّلاع على القيمة.
واختلفوا في كون هذا الخيار على الفور أو التراخي على قولين، سيجيء ذكر الأقوى منهما في مسألة خيار الغبن إن شاء الله.