٣. حجّيّة القياس
إنّ حجّيّة كلّ أمارة تناط بالعلم ـ وقد سبق بيان ذلك في هذا الجزء أكثر من مرّة (١) ـ ، فالقياس ـ كباقي الأمارات ـ لا يكون حجّة إلاّ في صورتين ، لا ثالثة لهما :
١. أن يكون بنفسه موجبا للعلم بالحكم الشرعيّ. (٢)
٢. أن يقوم دليل قاطع على حجّيّته ، إذا لم يكن بنفسه موجبا للعلم. (٣)
وحينئذ لا بدّ من بحث موضوع حجّيّة القياس عن الناحيتين ، فنقول :
أ. هل القياس يوجب العلم؟
إنّ القياس نوع من «التمثيل» المصطلح عليه في المنطق. (٤) وقلنا هناك : «إنّ التمثيل من الأدلّة التي لا تفيد إلاّ الاحتمال ؛ لأنّه لا يلزم من تشابه شيئين في أمر ، بل في عدّة أمور أن يتشابها من جميع الوجوه والخصوصيّات». (٥)
نعم ، إذا قويت وجوه الشبه بين الأصل والفرع ، وتعدّدت ، يقوى في النفس الاحتمال ، حتى يكون ظنّا ، ويقرب من اليقين. والقيافة (٦) من هذا الباب. ولكن كلّ ذلك لا يغني من الحقّ شيئا.
غير أنّه إذا علمنا ـ بطريق من الطرق ـ أنّ جهة المشابهة علّة تامّة لثبوت الحكم في الأصل عند الشارع ، ثمّ علمنا أيضا بأنّ هذه العلّة التامّة موجودة بخصوصيّاتها في الفرع ؛ فإنّه لا محالة يحصل لنا ـ على نحو اليقين ـ استنباط أنّ مثل هذا الحكم ثابت في الفرع ، كثبوته في الأصل ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن علّته التامّة. ويكون من القياس المنطقي
__________________
(١) راجع الصفحات : ٣٧٦ ـ ٣٧٩ و ٣٨٦ ـ ٣٨٧.
(٢) كالقطع.
(٣) كخبر الواحد ، والظواهر ، وغيرهما من الظنون الخاصّة.
(٤) وهو أن ينتقل الذهن من حكم أحد الشيئين إلى الحكم على الآخر ؛ لجهة مشتركة بينهما.
(٥) المنطق (للمؤلّف) ٢ : ٢٦٧.
(٦) القيافة مصدر ، والقائف : من يتتبّع الآثار ، ويعرفها ، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه. لسان العرب ٩ : ٢٩٣.