١٥. الحجّيّة أمر اعتباريّ أو انتزاعيّ؟
من الأمور التي وقعت موضع البحث أيضا عند المتأخّرين مسألة أنّ الحجّيّة هل هي من الأمور الاعتباريّة المجعولة بنفسها وذاتها ، أو أنّها من الانتزاعيّات التي تنتزع من المجعولات؟
وهذا النزاع في الحجّيّة فرع ـ في الحقيقة ـ على النزاع في أصل الأحكام الوضعيّة. وهذا النزاع في خصوص الحجّيّة ـ على الأقلّ ـ لم أجد له ثمرة عمليّة في الأصول.
على أنّ هذا النزاع في أصله غير محقّق ، ولا مفهوم له ؛ لأنّ لكلمتي : «الاعتباريّة» و «الانتزاعيّة» مصطلحات كثيرة ، في بعضها تكون الكلمتان متقابلتين ، وفي البعض الآخر متداخلتين. وتفصيل ذلك يخرجنا عن وضع الرسالة. (١)
ونكتفي أن نقول ـ على سبيل الاختصار ـ : إنّ الذي يظهر من أكثر كلمات المتنازعين في المسألة أنّ المراد من الأمر الانتزاعيّ هو المجعول ثانيا وبالعرض في مقابل المجعول أوّلا وبالذات ، بمعنى أنّ الإيجاد والجعل الاعتباريّ ينسب أوّلا وبالذات إلى شيء هو المجعول حقيقة ، ثمّ ينسب الجعل ثانيا وبالعرض إلى شيء آخر ، فالمجعول الأوّل هو الأمر الاعتباريّ ، والثاني هو الأمر الانتزاعيّ ، فيكون هناك جعل واحد ينسب إلى الأوّل بالذات ، وإلى الثاني بالعرض ، لا أنّه هناك جعلان واعتباران ينسب أحدهما إلى شيء ابتداء وينسب ثانيهما إلى آخر بتبع الأوّل ؛ فإنّ هذا ليس مراد المتنازعين قطعا.
فيقال في الملكيّة مثلا ـ التي هي من جملة موارد النزاع ـ : إنّ المجعول أوّلا وبالذات هو إباحة تصرّف الشخص بالشيء المملوك ، فينتزع منها أنّه مالك ـ أي إنّ الجعل ينسب ثانيا وبالعرض إلى الملكيّة ـ. فالملكيّة يقال لها : «إنّها مجعولة بالعرض». ويقال لها : «إنّها منتزعة من الإباحة». هذا إذا قيل : «إنّ الملكية انتزاعيّة» ، أمّا : إذا قيل : «إنّها اعتبارية» فتكون عندهم هي المجعولة أوّلا وبالذات للشارع أو العرف.
وعلى هذا ، فإذا أريد من الانتزاعيّ هذا المعنى فالحقّ أنّ الحجّيّة أمر اعتباريّ ، وكذلك
__________________
(١) وإن شئت فراجع فوائد الأصول ٤ : ٣٨٠ ـ ٣٨٢ ؛ مصباح الأصول ٣ : ٧٩.