درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۴: تمهید ۴

 
۱

خطبه

۲

خلاصه‌ای از جلسه گذشته

۳

تتمه‌ی تطبیق جلسه گذشته

۴

جواز عملیات استنباط

۵

تطبیق متن

۶

تطبیق متن

۷

دگرگونی معنای اجتهاد

۸

خلاصه بحث

عمليات الاستنباط في عناصر عامّةٍ لا يمكن استخراج الحكم الشرعيّ بدونها ، وكان ذلك إيذاناً بمولد علم الاصول ، واتّجاه الذهنية الفقهية اتجاهاً اصولياً ، فانفصل علم الاصول عن علم الفقه في البحث والتصنيف ، وأخذ يتّسع ويثرى تدريجاً من خلال نموِّ الفكر الاصوليِّ من ناحية ، وتبعاً لتوسّع البحث الفقهيِّ من ناحيةٍ اخرى ؛ لأنّ اتّساع نطاق التطبيق الفقهيّ كان يلفت أنظار الممارِسين إلى مشاكل جديدة ، فتوضع للمشاكل حلولها المناسبة ، وتتَّخذ الحلول صورة العناصر المشتركة في علم الاصول.

وكلّما بَعُد الفقيه عن عصر النصّ تعدّدت جوانب الغموض في فهم الحكم من مداركه الشرعية ، وتنوّعت الفجوات في عملية الاستنباط نتيجةً للبُعد الزمني ، فيحسّ أكثر فأكثر بالحاجة إلى تحديد قواعد عامّةٍ يعالج بها جوانب الغموض ويملأ بها تلك الفجوات ، وبهذا كانت الحاجة إلى علم الاصول تأريخية ، بمعنى أنّها تشتدّ وتتأكّد كلّما ابتعد الفقيه تأريخياً عن عصر النصّ ، وتراكمت الشكوك على عملية الاستنباط التي يمارسها.

وعلى هذا الأساس يمكن أن نفسِّر الفارق الزمنيّ بين ازدهار علم الاصول في نطاق التفكير الفقهيّ السنّيِّ وازدهاره في نطاق تفكيرنا الفقهيِّ الإمامي ، فإنّ التأريخ يشير إلى أنّ علم الاصول ترعرع وازدهر نسبياً في نطاق الفقه السنّيِّ قبل ترعرعه وازدهاره في نطاقنا الفقهيِّ الامامي ؛ وذلك لأنّ المذهب السنّيِّ كان يزعم انتهاء عصر النصوص بوفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحين اجتاز الفكر الفقهيّ السنّيّ القرن الثاني كان قد ابتعد عن عصر النصوص بمسافةٍ زمنيةٍ كبيرةٍ تخلق بطبيعتها الثغرات والفجوات.

وأمّا الإمامية فقد كانوا وقتئذٍ يعيشون عصر النصّ الشرعي ؛ لأنّ الإمام امتداد لوجود النبي ، فكانت المشاكل التي يعانيها فقهاء الإمامية في الاستنباط أقلّ

بكثيرٍ إلى الدرجة التي لا تفسح المجال للإحساس بالحاجة الشديدة إلى وضع علم الاصول ، ولهذا نجد أنّ الإمامية بمجرّد أن انتهى عصر النصوص بالنسبة اليهم ببدء الغيبة أو بانتهاء الغيبة الصغرى بوجهٍ خاصٍّ تفتّحت ذهنيّتهم الاصولية وأقبلوا على درس العناصر المشتركة.

وهذا لا يعني ـ طبعاً ـ أنّ بذور التفكير الاصوليّ لم توجد لدى فقهاء أصحاب الأئمة عليهم‌السلام ، بل قد وجدت هذه البذور منذ أيام الصادقين عليهما‌السلام (١) على المستوى المناسب لتلك المرحلة.

ومن الشواهد التأريخية على ذلك : ما ترويه كتب الحديث (٢) من أسئلةٍ ترتبط بجملةٍ من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط ، وجّهها عدد من الرواة إلى الإمام الصادق وغيره من الأئمة عليهم‌السلام ، وتلقَّوا جواباً منهم ، فإنّ تلك الأسئلة تكشف عن وجود بذرة التفكير الاصوليّ عندهم.

ويعزِّز ذلك : أنّ بعض أصحاب الأئمّة ألَّفوا رسائل في بعض المسائل الاصولية ، كهشام بن الحكم من أصحاب الإمام الصادق عليه‌السلام الذي روي أنّه ألَّف رسالةً في الألفاظ (٣).

__________________

(١) راجع تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٠

(٢) وسائل الشيعة ٣ : ٤٧٧ ، الباب ٤١ من أبواب النجاسات ، الحديث الأول. و ٢٧ : ١٠٦ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي. و ١ : ٤١٢ ، الباب ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث الأول

(٣) انظر فهرست النجاشي : ٤٣٣ الرقم ١١٦٤ ، وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام : ٣١٠ ـ ٣١١

جوازُ عمليّةِ الاستنباط

ما دام علم الاصول يرتبط بعملية الاستنباط ويحدّد عناصرها المشتركة فيجب أن نعرف قبل كلّ شيءٍ موقف الشريعة من هذه العملية ، فهل سمح الشارع لأحدٍ بممارستها لكي يوجد مجال لوضع علمٍ لدراسة عناصرها المشتركة؟

والحقيقة أنّ مسألة جواز الاستنباط حين تُطرح للبحث بالصيغة التي طرحناها لا يبدو أنّها جديرة بالنقاش ؛ لأنّنا حين نتساءل هل يجوز لنا ممارسة عملية الاستنباط ، أوْ لا؟ يجيء الجواب على البداهة بالإيجاب ؛ لأنّ عملية الاستنباط ـ كما تقدم ـ عبارة عن تحديد الموقف العمليّ تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً. ومن البديهيّ أنّ الإنسان بحكم تبعيّته للشريعة ملزم بتحديد موقفه العمليّ منها ، ولمَّا لم تكن أحكام الشريعة غالباً في البداهة والوضوح بدرجةٍ تُغني عن إقامة الدليل فليس من المعقول أن يحرم على الناس جميعاً تحديد الموقف العمليّ تحديداً استدلالياً.

ولكن لسوء الحظّ اتّفق لهذه المسألة أن اكتسبت صيغةً اخرى لا تخلو عن غموضٍ وتشويش ، فأصبحت مثاراً للاختلاف نتيجةً لذلك الغموض والتشويش ، فقد استخدمت كلمة «الاجتهاد» للتعبير عن عملية الاستنباط. وطرح السؤال هكذا : هل يجوز الاجتهاد في الشريعة؟ وحينما دخلت كلمة «الاجتهاد» في السؤال ـ وهي كلمة مرّت بمصطلحاتٍ عديدةٍ في تأريخها ـ أدّت إلى إبقاء ظلال تلك المصطلحات السابقة على البحث ، ونتج عن ذلك أن أجاب البعض على السؤال بالنفي ، وأدّى ذلك إلى شجب علم الاصول كلّه ؛ لأنّه إنّما يراد لأجل الاجتهاد ، فإذا الغيَ الاجتهاد لم تَعدْ حاجة إلى علم الاصول.

وفي سبيل توضيح ذلك يجب أن نذكر التطوّر الذي مرّت به كلمة «الاجتهاد» ؛ لكي نتبيَّن كيف أنّ النزاع الذي وقع حول جواز عملية الاستنباط والضجّة التي اثيرت ضدّها لم يكن إلاّنتيجة فهمٍ غير دقيقٍ للاصطلاح العلمي ، وغفلةٍ عن التطوّرات التي مرّت بها كلمة «الاجتهاد» في تأريخ العلم.

[تطوّر معنى (الاجتهاد)] :

الاجتهاد في اللغة مأخوذ من الجهد ، وهو : «بذل الوسع للقيام بعملٍ ما» ، وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأوّل مرّةٍ ـ على الصعيد الفقهيّ للتعبير بها عن قاعدةٍ من القواعد التي قرّرتها بعض مدارس الفقه السنّيّ وسارت على أساسها ، وهي القاعدة القائلة : «إنّ الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكماً شرعياً ولم يجد نصّاً يدلّ عليه في الكتاب أو السنّة رجع إلى الاجتهاد بدلاً عن النصّ».

والاجتهاد هنا يعني التفكير الشخصي ، فالفقيه حيث لا يجد النصّ يرجع إلى تفكيره الخاصّ ويستلهمه ، ويبني على ما يرجّح في فكره الشخصيّ من تشريع ، وقد يعبرّ عنه بالرأي أيضاً.

والاجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلّة الفقيه ومصدراً من مصادره ، فكما أنّ الفقيه قد يستند إلى الكتاب أو السنّة ويستدلّ بهما معاً كذلك يستند في حالات عدم توفّر النصّ إلى الاجتهاد الشخصيّ ويستدلّ به.

وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي ، وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة. ولقي في نفس الوقت معارضةً شديدةً من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم.

وتتبّع كلمة «الاجتهاد» يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى ، وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمّة إلى القرن السابع ، فالروايات المأثورة عن أئمة

أهل البيت عليهم‌السلام تذمّ الاجتهاد (١) ، وتريد به ذلك المبدأ الفقهيّ الذي يتّخذ من التفكير الشخصيّ مصدراً من مصادر الحكم ، وقد دخلت الحملة ضدّ هذا المبدأ الفقهيّ دور التصنيف في عصر الأئمّة أيضاً والرواة الذين حملوا آثارهم ، وكانت الحملة تستعمل كلمة «الاجتهاد» غالباً للتعبير عن ذلك المبدأ وفقاً للمصطلح الذي جاء في الروايات.

فقد صنّف عبد الله بن عبد الرحمان الزبيريّ كتاباً أسماه «الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس».

وصنّف هلال بن إبراهيم ابن أبي الفتح المدنيّ (٢) كتاباً في الموضوع باسم كتاب «الرّد على من ردّ آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول» (٣).

وصنّف في عصر الغيبة الصغرى أو قريباً منه إسماعيل بن علي بن إسحاق ابن أبي سهل النوبختي كتاباً في الردّ على عيسى بن أبان في الاجتهاد ، كما نصّ على ذلك كلّه النجاشيّ صاحب الرجال في ترجمة كلّ واحدٍ من هؤلاء (٤).

وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة ، ونذكر له ـ على سبيل المثال ـ تعقيبه على قصّة موسى والخضر ، إذ كتب يقول : «إنّ موسى مع كمال عقله وفضله ومحلّه من الله تعالى لم يدرك باستنباطه واستدلاله معنى أفعال الخضر حتّى اشتبه عليه وجه الأمر به ، فإذا لم يجزْ لأنبياء الله ورسله القياس والاستدلال والاستخراج كان مَن دونهم مِن الامم أولى بأن لا يجوز لهم ذلك ... ، فإذا لم يصلح موسى للاختيار مع فضله ومحلّه فكيف تصلح الامّة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ٣٥ ، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي

(٢) في المصدر : الدُّلَفي ، بدلاً عن المدنيّ

(٣) في المصدر : «واعتمد نتائج العقول» بدون كلمة على

(٤) فهرست النجاشي : ٣١ و ٢٢٠ و ٤٤٠ برقم ٦٨ و ٥٧٥ و ١١٨٦

لاختيار الإمام بآرائها؟! وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة؟!» (١).

وفي اواخر القرن الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد ، وهو يعبّر بهذه الكلمة عن ذلك المبدأ الفقهي الآنف الذكر ، ويكتب كتاباً في ذلك باسم «النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي» (٢).

ونجد المصطلح نفسه لدى السيّد المرتضى في أوائل القرن الخامس ، إذ كتب في الذريعة يذمّ الاجتهاد ، ويقول : إنّ الاجتهاد باطل ، وإنّ الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظنّ ، ولا الرأي ، ولا الاجتهاد» (٣).

وكتب في كتابه الفقهيّ «الانتصار» ـ مُعرِّضاً بابن الجنيد ـ قائلاً : إنّما عوَّل ابن الجنيد في هذه المسألة على ضربٍ من الرأي والاجتهاد ، وخطؤه ظاهر (٤).

وقال في مسألة مسح الرجلين في فصل الطهارة من كتاب الانتصار : «إنّا لا نرى الاجتهاد ، ولا نقول به» (٥).

واستمرّ هذا الاصطلاح في كلمة «الاجتهاد» بعد ذلك أيضاً ، فالشيخ الطوسيّ ـ الذي توفِّي في أواسط القرن الخامس ـ يكتب في كتاب «العدّة» قائلاً : «أمّا القياس والاجتهاد فعندنا أنّهما ليسا بدليلين ، بل محظور استعمالهما» (٦).

وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البيّنتين

__________________

(١) علل الشرائع : ٦٢ و ٦٣ ، الباب ٥٤ ، ذيل الحديث ١ و ٢

(٢) ذكره النجاشي في فهرسته : ٤٠٢ / ١٠٦٧

(٣) الذريعة الى اصول الشريعة ٢ : ٦٣٦ و ٦٤٦ ، نقلاً بالمعنى

(٤) الانتصار : ٤٨٨ مسألة (٢٧١)

(٥) المصدر السابق : ١١٣ ، مسألة (١٤) ، مضموناً

(٦) عدّة الاصول ١ : ٣٩

من كتابه «السرائر» عدداً من المرجّحات لإحدى البيّنتين على الاخرى ، ثمّ يعقِّب ذلك قائلاً : «ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا» (١).

وهكذا تدلّ هذه النصوص بتعاقبها التأريخيّ المتتابع على أنّ كلمة «الاجتهاد» كانت تعبيراً عن ذلك المبدأ الفقهيّ المتقدّم إلى أوائل القرن السابع ، وعلى هذا الأساس اكتسبت الكلمة لوناً مقيتاً وطابعاً من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية ؛ نتيجةً لمعارضة ذلك المبدأ ، والإيمان ببطلانه.

ولكنّ كلمة «الاجتهاد» تطوّرت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ، ولا يوجد لدينا الآن نصّ شيعيّ يعكس هذا التطوّر أقدم تأريخاً من كتاب المعارج للمحقّق الحلّي المتوفّى سنة (٦٧٦ ه‍) ، إذ كتب المحقّق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : «وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلّة الشرع اجتهاداً ؛ لأنّها تبتني على اعتباراتٍ نظريةٍ ليست مستفادةً من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياساً أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم على هذا أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد.

قلنا : الأمر كذلك ، لكن فيه إيهام من حيث إنّ القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثني القياس كنّا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس» (٢).

ويلاحظ على هذا النصّ بوضوحٍ : أنّ كلمة «الاجتهاد» كانت لا تزال في الذهنيّة الإماميّة مثقلةً بتَبِعة المصطلح الأوّل ، ولهذا يلمح النصّ إلى أنّ هناك من

__________________

(١) السرائر ٢ : ١٧٠

(٢) معارج الاصول : ١٧٩ و ١٨٠