درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۱۵: دلیل شرعی ۷

 

وهناك من يذهب من العلماء ـ كصاحب الكفاية رحمه‌الله (١) ـ إلى أنّ النسبة التي تدلّ عليها «بعتُ» في حال الإخبار و «بعتُ» في حال الإنشاء واحدة ، ولا يوجد أيّ فرقٍ في مرحلة المدلول التصوّري بين الجملتين ، وإنّما الفرق في مرحلة المدلول التصديقي ؛ لأنّ البائع يقصد بالجملة إبراز اعتبار التمليك بها وإنشاء المعاوضة عن هذا الطريق ، وغير البائع يقصد بالجملة الحكاية عن مضمونها ، فالمدلول التصديقيّ مختلف دون المدلول التصوّري.

ومن الواضح أنّ هذا الكلام إذا تعقّلناه فإنّما يتمّ في الجملة المشتركة بلفظٍ واحدٍ بين الإنشاء والإخبار ، كما في «بعتُ» ، ولا يمكن أن ينطبق على ما يختصّ به الإنشاء أو الإخبار من جمل. فصيغة الأمر ـ مثلاً ـ جملة إنشائية ولا تستعمل للحكاية عن وقوع الحدث ، وإنّما تدلّ على طلب وقوعه ، ولا يمكن القول هنا بأنّ المدلول التصوريّ ل «افعل» نفس المدلول التصوّري للجملة الخبرية ، وأنّ الفرق بينهما في المدلول التصديقي فقط. والدليل على عدم إمكان هذا القول : أنَّا نحسّ بالفرق بين الجملتين حتّى في حالة تجرّدهما عن المدلول التصديقي وسماعهما من لافظٍ لا شعور له.

الدلالات التي يبحث عنها علم الاصول :

نستطيع أن نقسّم العناصر اللغوية من وجهة نظرٍ اصوليةٍ إلى عناصر مشتركةٍ في عملية الاستنباط ، وعناصر خاصّةٍ في تلك العملية.

فالعناصر المشتركة هي : كلّ أداةٍ لغويةٍ تصلح للدخول في ايِّ دليلٍ مهما كان نوع الموضوع الذي يعالجه ذلك الدليل ، ومثاله : صيغة فعل الأمر ، فإنّ بالإمكان

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٧

استخدامها بالنسبة إلى أيِّ موضوع.

والعناصر الخاصّة في عملية الاستنباط هي : كلّ أداةٍ لغويةٍ لا تصلح للدخول إلاّ في الدليل الذي يعالج موضوعاً معيّناً ، ولا أثر لها في استنباط حكم موضوعٍ آخر ، ككلمة «الإحسان» فإنّها لا يمكن أن تدخل في دليلٍ سوى الدليل الذي يشتمل على حكمٍ مرتبطٍ بالإحسان ، ولا علاقة للأدلّة التي تشتمل على حكم الصلاة ـ مثلاً ـ بكلمة «الإحسان» ، فلهذا كانت كلمة «الإحسان» عنصراً خاصّاً في عملية الاستنباط.

وعلى هذا الأساس يدرس علم الاصول من اللغة القسم الأوّل من الأدوات اللغوية التي تعتبر عناصر مشتركةً في عملية الاستنباط ، فيبحث عن مدلول صيغة فعل الأمر ، وأ نّها هل تدلّ على الوجوب ، أو الاستحباب؟ ولا يبحث عن مدلول كلمة «الإحسان».

ويدخل في القسم الأوّل من الأدوات اللغوية أداة الشرط أيضاً ؛ لأنّها تصلح للدخول في استنباط الحكم من أيِّ دليلٍ لفظيٍّ مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلّق به ، فنحن نستنبط من النصّ القائل : «إذا زالت الشمس وجبت الصلاة» أنّ وجوب الصلاة مرتبط بالزوال بدليل أداة الشرط ، ونستنبط من النصّ القائل : «إذا هلّ هلال شهر رمضان وجب الصوم» أنّ وجوب الصوم مرتبط بالهلال ، ولأجل هذا يدرس علم الاصول أداة الشرط بوصفها عنصراً مشتركاً ، ويبحث عن نوع الربط الذي تدلّ عليه ونتائجه في استنباط الحكم الشرعي.

وكذلك الحال في صيغة الجمع المعرَّف باللام ؛ لأنّها أداة لغوية صالحة للدخول في الدليل اللفظيِّ مهما كان نوع الموضوع الذي يتعلّق به.

وفي ما يلي نذكر بعض النماذج من هذه الأدوات المشتركة التي يدرسها الاصوليّون :

١ ـ صيغة الأمر :

صيغة فعل الأمر نحو «إذهب» و «صلِّ» و «صُمْ» و «جاهِدْ» إلى غير ذلك من الأوامر.

والمقرَّر بين الاصوليّين عادةً هو القول بأنّ هذه الصيغة تدلّ لغةً على الوجوب.

وهذا القول يدعونا أن نتساءل : هل يريد هؤلاء الأعلام من القول بأنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب أن صيغة فعل الأمر تدلّ على نفس ما تدلّ عليه كلمة الوجوب فتكونان مترادِفَتين؟ وكيف يمكن افتراض ذلك؟ مع أنّنا نحسّ بالوجدان أنّ كلمة الوجوب وصيغة فعل الأمر ليستا مترادفتين ، وإلاّ لجاز أن نستبدل إحداهما بالاخرى ، وما دام هذا الاستبدال غير جائزٍ فنعرف أن صيغة فعل الأمر تدلّ على معنىً يختلف عن المعنى الذي تدلّ عليه كلمة الوجوب ، ويصبح من الصعب عندئذٍ فهم القول السائد بين الاصوليين بأنّ «صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب».

والحقيقة أن هذا القول يحتاج إلى تحليل مدلول صيغة فعل الأمر لكي نعرف كيف تدلّ على الوجوب ، فنحن حين ندقِّق في فعل الأمر نجد أنّه يدلّ على نسبةٍ بين مادة الفعل والفاعل منظوراً إليها بما هي نسبة يراد تحقيقها وإرسال المكلف نحو إيجادها.

أرأيت الصيّاد حين يُرسِل كلب الصيد إلى فريسته؟ إنّ تلك الصورة التي يتصوّرها الصيّاد عن ذهاب الكلب إلى الفريسة وهو يرسله إليها هي نفس الصورة التي يدلّ عليها فعل الأمر ، ولهذا يقال في علم الاصول : إنّ مدلول صيغة الأمر هو النسبة الإرسالية.

وكما أنّ الصياد حين يرسل الكلب إلى فريسته قد يكون إرساله هذا ناتجاً عن شوقٍ شديدٍ إلى الحصول على تلك الفريسة ورغبةٍ أكيدةٍ في ذلك ، وقد يكون ناتجاً عن رغبةٍ غير أكيدةٍ وشوقٍ غير شديدٍ ، كذلك النسبة الإرسالية التي تدلّ عليها الصيغة في فعل الأمر قد نتصوّرها ناتجةً عن شوقٍ شديدٍ وإلزامٍ أكيد ، وقد نتصوّرها ناتجةً عن شوقٍ أضعف ورغبةٍ أقلّ درجة.

وعلى هذا الضوء نستطيع الآن أن نفهم معنى ذلك القول الاصوليّ القائل : إنّ صيغة فعل الأمر تدلّ على الوجوب ، فإنّ معناه : أنّ الصيغة قد وضعت للنسبة الإرسالية بوصفها ناتجةً عن شوقٍ شديدٍ وإلزامٍ أكيد ، ولهذا يدخل معنى الإلزام والوجوب ضمن الصورة التي نتصوّر بها المعنى اللغويّ للصيغة عند سماعها دون أن يصبح فعل الأمر مرادفاً لكلمة الوجوب.

وليس معنى دخول الإلزام والوجوب في معنى الصيغة أنّ صيغة الأمر لا يجوز استعمالها في مجال المستحبّات ، بل قد استعملت كثيراً في موارد الاستحباب ، كما استعملت في موارد الوجوب ، ولكنّ استعمالها في موارد الوجوب استعمال حقيقي ؛ لأنّه استعمال للصيغة في المعنى الذي وضعت له ، واستعمالها في موارد الاستحباب استعمال مجازيّ يبرّره الشبه القائم بين الاستحباب والوجوب.

والدليل على أنّ صيغة الأمر موضوعة للوجوب بالمعنى الذي قلنا : هو التبادر ، فإنّ المنسبق إلى ذهن العرف ذلك ، بشهادة أنّ الآمر العرفيّ إذا أمر المكلّف بصيغة الأمر ولم يأتِ المكلّف بالمأمور به معتذراً بأنّي لم أكن أعرف أنّ هذا واجب أو مستحبّ ، لا يقبل منه العذر ، ويُلامُ على تخلّفه عن الامتثال ، وليس ذلك إلاّلانسباق الوجوب عرفاً من اللفظ وتبادره ، والتبادر علامة الحقيقة.