درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۱۶: دلیل شرعی ۸

 

٢ ـ صيغة النهي :

صيغة النهي نحو «لا تذهبْ» ، والمقرَّر بين الاصوليّين هو القول بأنّ صيغة النهي تدلّ على الحرمة ، ويجب أن نفهم هذا القول بصورةٍ مماثلةٍ لفهمنا القول بأنّ صيغة الأمر تدلّ على الوجوب مع فارق ، وهو : أنّ النهي إمساك ومنع ، والأمر إرسال وطلب ، فصيغة النهي إذن تدلّ على نسبةٍ إمساكية.

أي أنَّا حين نسمع جملة «إذهبْ» نتصوّر نسبةً بين الذهاب والمخاطب ، ونتصوّر أنّ المتكلّم يُرسِل المخاطب نحوها ويبعثه إلى تحقيقها ، كما يرسل الصيّاد كلبه نحو الفريسة. وأمّا حين نسمع جملة «لا تذهبْ» فنتصوّر نسبةً بين الذهاب والمخاطب ، ونتصوّر أنّ المتكلّم يُمسِك مخاطبه عن تلك النسبة ويزجره عنها ، كما لو حاول كلب الصيد أن يطارد الفريسة فأمسك به الصيّاد ، ولهذا نطلق عليها اسم «النسبة الإمساكية».

وتدخل الحرمة في مدلول النهي بالطريقة التي دخل بها الوجوب إلى مدلول الأمر ، ولنرجع بهذا الصدد إلى مثال الصيّاد ، فإنَّا نجد أنّ الصياد حين يمسك كلبه عن تتبّع الفريسة قد يكون إمساكه هذا ناتجاً عن كراهة تتبّع الكلب للفريسة بدرجةٍ شديدة ، وقد ينتج عن كراهة ذلك بدرجةٍ ضعيفة ، ونظير هذا تماماً نتصوّره في النسبة الإمساكية التي نتحدّث عنها ، فإنَّا قد نتصورها ناتجةً عن كراهةٍ شديدةٍ للمنهيِّ عنه ، وقد نتصورها ناتجةً عن كراهةٍ ضعيفة.

ومعنى القول بأنّ «صيغة النهي تدلّ على الحرمة» في هذا الضوء : أنّ الصيغة موضوعة للنسبة الإمساكية بوصفها ناتجةً عن كراهةٍ شديدةٍ وهي الحرمة ، فتدخل الحرمة ضمن الصورة التي نتصوّر بها المعنى اللغويَّ لصيغة النهي عند سماعها.

والدليل على أنّها موضوعة كذلك هو التبادر ، كما تقدم في صيغة الأمر.

وفي نفس الوقت قد تستعمل صيغة النهي في موارد الكراهة ، فيُنهى عن المكروه أيضاً بسبب الشبه القائم بين الكراهة والحرمة ، ويعتبر استعمالها في موارد المكروهات استعمالاً مجازياً.

٣ ـ الإطلاق :

وتوضيحه : أنّ الشخص إذا أراد أن يأمر ولده بإكرام جاره المسلم فلا يكتفي عادةً بقوله : «أكرِم الجار» ، بل يقول : «أكرِم الجارَ المسلم» ، وأمّا إذا كان يريد من ولده أن يُكرِم جاره مهما كان دينه فيقول : «أكرم الجار» ، ويطلق كلمة «الجار» ـ أي لا يقيّدها بوصفٍ خاصٍّ ـ ويفهم من قوله عندئذٍ أنّ الأمر لا يختصّ بالجار المسلم ، بل يشمل الجار الكافر أيضاً ، وهذا الشمول نفهمه نتيجةً لذكر كلمة «الجار» مجرّدةً عن القيد ، ويسمّى هذا ب «الإطلاق» ويسمّى اللفظ في هذه الحالة «مطلقاً».

وعلى هذا الأساس يعتبر تجرّد الكلمة من القيد اللفظيّ في الكلام دليلاً على شمول الحكم ، ومثال ذلك من النصّ الشرعيّ قوله تعالى : «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ» (١) ، فقد جاءت كلمة «البيع» هنا مجرّدةً عن أيِّ قيدٍ في الكلام ، فيدلّ هذا الإطلاق على شمول الحكم بالحلّيّة لجميع أنواع البيع.

وأمّا كيف أصبح ذكر الكلمة بدون قيدٍ في الكلام دليلاً على الشمول؟ وما هو مصدر هذه الدلالة؟ فهذا ما لا يمكن تفصيل الكلام فيه على مستوى هذه الحلقة.

ولكن نقول على نحو الإيجاز : إنّ ظاهر حال المتكلِّم حينما يكون له مرامٌ في نفسه يدفعه إلى الكلام أن يكون في مقام بيان تمام ذلك المرام ، فإذا قال : «أكرم الجار» وكان مرامه الجار المسلم خاصّةً لم يكتفِ بما قال ، بل يردفه عادةً بما يدلّ

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥

على قيد الإسلام ، وفي كلّ حالةٍ لا يأتي بما يدلّ على القيد نعرف أنّ هذا القيد غير داخلٍ في مرامه ، إذ لو كان داخلاً في مرامه ومع هذا سكتَ عنه لكان ذلك على خلاف ظاهر حاله القاضي بأ نّه في مقام بيان تمام المراد بالكلام ، فبهذا الاستدلال نستكشف الإطلاق من السكوت وعدم ذكر القيد ، ويعبّر عن ذلك بقرينة الحكمة.

٤ ـ أدوات العموم :

أدوات العموم مثالها «كلّ» في قولنا : «احترِمْ كلَّ عادل» ؛ وذلك أنّ الآمر حين يريد أن يدلِّل على شمول حكمه وعمومه قد يكتفي بالإطلاق وذكر الكلمة بدون قيدٍ ـ كما شرحناه آنفاً ـ فيقول : «أكرم الجار» ، وقد يريد مزيداً من التأكيد على العموم والشمول فيأتي بأداةٍ خاصّةٍ للدلالة على ذلك ، فيقول في المثال المتقدّم مثلاً : «أكرم كلّ جار» ، فيفهم السامع من ذلك مزيداً من التأكيد على العموم والشمول ، ولهذا تعتبر كلمة «كلّ» من أدوات العموم ؛ لأنّها موضوعة في اللغة لذلك ، ويسمّى اللفظ الذي دلّت الأداة على عمومه «عامّاً» ، ويعبَّر عنه ب «مدخول الأداة» ؛ لأنّ أداة العموم دخلت عليه وعمّمته.

ونستخلص من ذلك : أنّ التدليل على العموم يتمّ بإحدى طريقتين :

الاولى : سلبية ، وهي الإطلاق ، أي ذكر الكلمة بدون قيد.

والثانية : إيجابية ، وهي استعمال أداةٍ للعموم ، نحو «كلّ» و «جميع» و «كافّة» ، وما إليها من ألفاظ.

وقد اختلف الاصوليّون في صيغة الجمع المعرَّف باللام ، من قبيل «الفقهاء» ، «العقود».