١٢. تصحيح جعل الأمارة
بعد ما ثبت أنّ جعل الأمارة يشمل فرض انفتاح باب العلم ـ مع ما ثبت من اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ـ تنشأ «شبهة عويصة» في صحّة جعل الأمارة قد أشرنا إليها فيما سبق ، (١) وهي أنّه في فرض التمكّن من تحصيل الواقع والوصول إليه كيف جاز أن يأذن الشارع باتّباع الأمارة الظنّية ، وهي ـ حسب الفرض ـ تحتمل الخطأ المفوّت للواقع ، والإذن في تفويته قبيح عقلا ؛ لأنّ الأمارة لو كانت دالّة على جواز الفعل ـ مثلا ـ وكان الواقع هو الوجوب أو الحرمة ، فإنّ الإذن باتّباع الأمارة ـ في هذا الفرض ـ يكون إذنا بترك الواجب ، أو فعل الحرام ، مع أنّ الفعل لا يزال باقيا على وجوبه الواقعيّ ، أو حرمته الواقعيّة ، مع تمكّن المكلّف من الوصول إلى معرفة الواقع حسب الفرض ، ولا شكّ في قبح ذلك من الحكيم؟!
وهذه الشبهة هي التي ألجأت بعض الأصوليّين إلى القول بأنّ الأمارة مجعولة على نحو «السببيّة» (٢) ، إذ عجزوا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو «الطريقيّة» التي هي الأصل في الأمارة على ما سيأتي شرح ذلك قريبا. (٣)
والحقّ معهم ؛ إذا نحن عجزنا عن تصحيح جعل الأمارة على نحو الطريقيّة ؛ لأنّ المفروض أنّ الأمارة قد ثبتت حجّيّتها قطعا ، فلا بدّ أن يفرض ـ حينئذ ـ في قيام الأمارة ، أو في اتّباعها مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع على تقدير خطئها ، حتى لا يكون إذن الشارع بتفويت الواقع قبيحا ، ما دام أنّ تفويته له يكون لمصلحة أقوى وأجدى (٤) أو مساوية لمصلحة الواقع ، فينشأ على طبق مؤدّى الأمارة حكم ظاهريّ بعنوان أنّه الواقع ، إمّا أن يكون مماثلا للواقع عند الإصابة ، أو مخالفا له عند الخطأ.
__________________
(١) راجع الصفحة : ٣٨٦.
(٢) وهذا منسوب إلى بعض الإماميّة ، كما في فوائد الأصول ٤ : ٧٥٨.
(٣) سيأتي في المبحث الآتي.
(٤) الأجدى أي الأنفع.