وأجيب عنه بأنّ الحسن والقبح في ذلك بمعنى الملاءمة والمنافرة أو بمعنى صفة الكمال والنقص ، وهو مسلّم لا نزاع فيه. وأمّا بالمعنى المتنازع فيه فإنّا لا نسلّم جزم العقلاء به. (١)
ونحن نقول : إنّ من يدّعي ضرورة حكم العقلاء بحسن الإحسان وقبح الظلم يدّعي ضرورة مدحهم لفاعل الإحسان وذمّهم لفاعل الظلم. ولا شكّ في أنّ هذا المدح والذمّ من العقلاء ضروريّان ؛ لتواترهما عن جميع الناس ، ومنكرهما مكابر. والذي يدفع العقلاء لهذا ـ كما قدّمنا ـ شعورهم بأنّ العدل كمال للعادل ، وملاءمته لمصلحة النوع الإنسانيّ وبقائه ، وشعورهم بنقص الظلم ، ومنافرته لمصلحة النوع الإنسانيّ وبقائه.
٤. واستدلّ العدليّة أيضا بأنّ الحسن والقبح لو كانا لا يثبتان إلاّ من طريق الشرع ، فهما لا يثبتان أصلا حتّى من طريق الشرع. (٢)
وقد صوّر بعضهم (٣) هذه الملازمة على النحو الآتي :
إنّ الشارع إذا أمر بشيء فلا يكون حسنا إلاّ مدح مع ذلك الفاعل عليه ، وإذا نهى عن شيء فلا يكون قبيحا إلاّ إذا ذمّ الفاعل عليه. ومن أين تعرف أنّه يجب أن يمدح الشارع فاعل المأمور به ويذمّ فاعل المنهيّ عنه ، إلاّ إذا كان ذلك واجبا عقلا؟ فتوقّف حسن المأمور به وقبح المنهيّ عنه على حكم العقل ، وهو المطلوب.
ثمّ لو ثبت أنّ الشارع مدح فاعل المأمور به وذمّ فاعل المنهيّ عنه ، والمفروض أنّ مدح الشارع ثوابه وذمّه عقابه ، فمن أين نعرف أنّه صادق في مدحه وذمّه ، إلاّ إذا ثبت أنّ الكذب قبيح عقلا يستحيل عليه؟ فيتوقّف ثبوت الحسن والقبح شرعا على ثبوتهما عقلا ، فلو لم يكن لهما ثبوت عقلا فلا ثبوت لهما شرعا.
وقد أجاب بعض الأشاعرة (٤) عن هذا التصوير بأنّه يكفي في كون الشيء حسنا أن يتعلّق
__________________
(١) هكذا أجاب عنه التفتازاني في شرح المقاصد ٤ : ٢٩١.
(٢) كشف المراد : ٣٠٣.
(٣) كالحكيم السبزواريّ في شرح الأسماء الحسنى : ٣٢١. وصوّرها ابن ميثم على النحو الآخر ، كما صوّرها العلاّمة على النحو الثالث ، فراجع قواعد المرام : ١٠٦ ، وكشف المراد : ٣٠٣.
(٤) وهو التفتازاني في شرح المقاصد ٤ : ٢٩٢ ، والقوشجيّ في شرح التجريد : ٣٤٠.