الثاني : أنّ القضيّة التأديبيّة لا واقع لها إلاّ تطابق آراء العقلاء ، والأوّليّات لها واقع خارجيّ.
الثالث : أنّ القضيّة التأديبيّة لا يجب أن يحكم بها كلّ عاقل لو خلّي ونفسه ، ولم يتأدّب بقبولها والاعتراف بها ، كما قال الشيخ الرئيس على ما نقلناه من عبارته فيما سبق في الأمر الثاني ، وليس كذلك القضيّة الأوّليّة التي يكفي تصوّر طرفيها في الحكم ، فإنّه لا بدّ ألاّ يشكّ عاقل في الحكم بها لأوّل وهلة.
٢. ومن أدلّتهم على إنكار الحسن والقبح العقليّين أن قالوا : إنّه لو كان ذلك عقليّا لما اختلف حسن الأشياء وقبحها باختلاف الوجوه والاعتبارات ، كالصدق ؛ إذ يكون مرّة ممدوحا عليه وأخرى مذموما عليه إذا كان فيه ضرر كبير. وكذلك الكذب بالعكس يكون [مرّة] مذموما عليه و [أخرى] ممدوحا عليه إذا كان فيه نفع كبير ؛ كالضرب والقيام والقعود ونحوها ممّا يختلف حسنه وقبحه (١).
والجواب عن هذا الدليل وأشباهه يظهر ممّا ذكرناه من أنّ حسن الأشياء وقبحها على أنحاء ثلاثة ، فما كان ذاتيّا لا يقع فيه اختلاف ؛ فإنّ العدل بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا ، وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسنا أبدا ، أي إنّه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح ، وما دام عنوان الظلم صادقا فهو مذموم.
وأمّا : ما كان عرضيّا فإنّه يختلف بالوجوه والاعتبارات ، فمثلا الصدق إن دخل تحت عنوان العدل كان ممدوحا ، وإن دخل تحت عنوان الظلم كان قبيحا. وكذلك الكذب وما ذكر من الأمثلة.
والخلاصة أنّ العدليّة لا يقولون بأنّ جميع الأشياء لا بدّ أن تتّصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا ، حتّى يلزم ما ذكر من الإشكال.
٣. وقد استدلّ العدليّة على مذهبهم بما خلاصته «أنّه من المعلوم ضرورة حسن الإحسان وقبح الظلم عند كلّ عاقل من غير اعتبار شرع ، فإنّ ذلك يدركه حتّى منكر الشرائع» (٢).
__________________
(١) شرح المقاصد ٤ : ٢٨٤ ؛ شرح التجريد للقوشجيّ : ٣٣٩.
(٢) كشف المراد : ٣٠٣ ، مفتاح الباب : ١٥٣.