٤. أسباب حكم العقل العمليّ بالحسن والقبح
إنّ الإنسان إذ يدرك أنّ الشيء ينبغي فعله فيمدح فاعله ، أو لا ينبغي فعله فيذمّ فاعله ، لا يحصل له الإدراك جزافا واعتباطا ، وهذا شأن كلّ ممكن حادث ، بل لا بدّ له من سبب ؛ وسببه بالاستقراء أحد أمور خمسة نذكرها هنا لنذكر ما يدخل منها في محلّ النزاع في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فنقول :
الأوّل : أن يدرك أنّ هذا الشيء كمال للنفس أو نقص لها ، فإنّ إدراك العقل لكماله أو نقصه يدفعه للحكم بحسن فعله أو قبحه ، كما تقدّم قريبا (١) ؛ تحصيلا لذلك الكمال أو دفعا لذلك النقص.
الثاني : أن يدرك ملاءمة الشيء للنفس أو عدمها إمّا بنفسه أو لما فيه من نفع عامّ أو خاصّ ، فيدرك حسن فعله أو قبحه تحصيلا للمصلحة أو دفعا للمفسدة.
وكلّ من هذين الإدراكين ـ أعني إدراك الكمال أو النقص ، وإدراك الملاءمة أو عدمها ـ يكون على نحوين :
١. أن يكون الإدراك لواقعة جزئيّة خاصّة ، فيكون حكم الإنسان بالحسن والقبح بدافع المصلحة الشخصيّة. وهذا الإدراك لا يكون بقوّة العقل ؛ لأنّ العقل شأنه إدراك الأمور الكلّيّة لا الأمور الجزئيّة ، بل إنّما يكون إدراك الجزئيّة بقوّة الحسّ أو الواهم أو الخيال ، وإن كان مثل هذا الإدراك قد يستتبع مدحا أو ذمّا لفاعله ولكن هذا المدح أو الذّم لا ينبغي أن يسمّى «عقليّا» ، بل قد يسمّى ـ بالتعبير الحديث ـ «عاطفيّا» ؛ لأنّ سببه تحكيم العاطفة الشخصيّة ، ولا بأس بهذا التعبير.
٢. أن يكون الإدراك لأمر كلّيّ ، فيحكم الإنسان بحسن الفعل لكونه كمالا للنفس ، كالعلم والشجاعة ، أو لكونه فيه مصلحة نوعيّة ، كمصلحة العدل لحفظ النظام وبقاء النوع الإنسانيّ. فهذا الإدراك إنّما يكون بقوّة العقل بما هو عقل ، فيستتبع مدحا من جميع العقلاء.
وكذا في إدراك قبح الشيء باعتبار كونه نقصا للنفس ، كالجهل ، أو لكونه فيه مفسدة
__________________
(١) تقدّم في الصفحة : ٢٢٩.