ولكنّ الصحيح ـ الواضح لكلّ مفكّر ـ أنّ الخاصّ ليس من وجوه العامّ ، بل الأمر بالعكس من ذلك ؛ فإنّ العامّ هو وجه من وجوه الخاصّ ، وجهة من جهاته. ولذا قلنا بإمكان القسم الثالث وهو «الوضع العامّ والموضوع له الخاص» ؛ لأنّا إذا تصوّرنا العامّ فقد تصوّرنا في ضمنه جميع أفراده بوجه ، فيمكن الوضع لنفس ذلك العامّ من جهة تصوّره بنفسه ، فيكون من القسم الثاني ، ويمكن الوضع لأفراده من جهة تصوّرها بوجهها ، فيكون من الثالث ، بخلاف الأمر في تصوّر الخاصّ ، فلا يمكن الوضع معه إلاّ لنفس ذلك الخاصّ ، ولا يمكن الوضع للعامّ ؛ لأنّا لم نتصوّره أصلا ، لا بنفسه بحسب الفرض ولا بوجهه ؛ إذ ليس الخاصّ وجها له (١). ويستحيل الحكم على المجهول المطلق.
٦. وقوع الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ، وتحقيق المعنى الحرفي
أمّا وقوع القسم الثالث : فقد قلنا : إنّ مثاله وضع الحروف ، وما يلحق بها من أسماء الإشارة والضمائر والموصولات والاستفهام ونحوها.
وقبل إثبات ذلك لا بدّ من تحقيق معنى الحرف وما يمتاز به عن الاسم ، فنقول : الأقوال في وضع الحروف وما يلحق بها من الأسماء ثلاثة :
١. إنّ الموضوع له في الحروف هو بعينه الموضوع له في الأسماء المسانخة لها في المعنى ، فمعنى «من» الابتدائيّة هو عين معنى كلمة «الابتداء» بلا فرق ، وكذا معنى «على» معنى كلمة «الاستعلاء» ، ومعنى «في» معنى كلمة «الظرفيّة» ... وهكذا.
وإنما الفرق في جهة أخرى ، وهي أنّ الحرف وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لوحظ ذلك المعنى حالة وآلة لغيره ـ أي إذا لوحظ المعنى غير مستقلّ في نفسه ـ ، والاسم وضع لأجل أن يستعمل في معناه إذا لو حفظ مستقلاّ في نفسه ؛ مثلا مفهوم «الابتداء» معنى واحد وضع له لفظان : أحدهما لفظ «الابتداء» ، والثاني كلمة «من» ، لكنّ الأوّل وضع له ؛
__________________
(١) لا يخفى أنّ العامّ أيضا بما أنّه عامّ لا يمكن أن يكون مرآة للخاصّ بما أنّه خاصّ ، فإنّا إذا تصوّرنا «الإنسان» بما أنّه إنسان لا يحكي إلاّ عن الإنسانيّة الصرفة ، نعم ، إذا تصوّرناه بما أنّه صادق على الأفراد يحكي عنها بالإجمال.