ومنها: ما ذكره المحقّق في المعتبر في مسألة خبر الواحد، حيث قال:
أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر، وما فطنوا لما تحته (کلام) من التناقض؛ فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ صلىاللهعليهوآله: «ستكثر بعدي القالة (اقاویل و دروغ) عليّ»، وقول الصادق عليهالسلام: «إنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه».
واقتصر بعضهم من هذا الإفراط، فقال: كلّ سليم السند يعمل به. وما علم أنّ الكاذب قد يصدق، ولم يتنبّه (بعضهم) على أنّ ذلك (مسئله) طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب؛ إذ ما من مصنّف إلاّ وهو يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل.
وافرط آخرون في طريق ردّ الخبر حتّى أحالوا استعماله (خبرواحد) عقلا. واقتصر آخرون، فلم يروا العقل مانعا، لكنّ الشرع لم يأذن في العمل به (خبر وحد).
وكلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن، والتوسّط أقرب، فما قبله الأصحاب أو دلّت القرائن على صحّته (خبر) عمل به، وما أعرض عنه الأصحاب أو شذّ يجب اطّراحه، انتهى.
وهو (کلام محقق) ـ كما ترى ـ ينادي: بأنّ علماء الشيعة قد يعملون بخبر المجروح كما يعملون بخبر العدل، وليس المراد عملهم بخبر المجروح والعدل إذا أفاد العلم بصدقه (خبر)؛ لأنّ كلامه في الخبر الغير العلميّ، وهو الذي أحال قوم استعماله عقلا ومنعه آخرون شرعا.
ومنها: ما ذكره الشهيد في الذكرى والمفيد الثاني ولد شيخنا الطوسي: من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع الشيخ أبي الحسن عليّ ابن بابويه عند إعواز (نبود) النصوص؛ تنزيلا لفتاواه (صدوق) منزلة رواياته. ولو لا عمل الأصحاب برواياته الغير العلميّة لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند عدم رواياته.
ومنها: ما ذكره المجلسي في البحار ـ في تأويل بعض الأخبار التي تقدّم ذكرها في دليل السيّد وأتباعه ممّا دلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصدور ـ : من أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهمالسلام بالخبر الغير العلميّ متواتر بالمعنى.
ولا يخفى: أنّ شهادة مثل هذا المحدّث الخبير الغوّاص في بحار أنوار أخبار الأئمّة الأطهار بعمل أصحاب الأئمّة عليهمالسلام بالخبر الغير العلميّ. ودعواه (مجلسی) حصول القطع له بذلك من جهة التواتر، لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الإجماع على العمل بأخبار الآحاد، وسيأتي أنّ المحدّث الحرّ العامليّ في الفصول المهمّة ادّعى أيضا تواتر الأخبار بذلك.
ومنها: ما ذكره شيخنا البهائيّ في مشرق الشمسين: من أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه (خبر). وذكر فيما يوجب الوثوق امورا لا تفيد إلاّ الظنّ.
ومعلوم أنّ الصحيح عندهم هو المعمول به (صحیح)، وليس مثل الصحيح عند المتأخّرين في أنّه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه (صحیح) أو لخلل آخر؛ فالمراد أنّ المقبول عندهم ما تركن إليه (خبر) النفس وتثق به.
هذا ما حضرني من كلمات الأصحاب، الظاهرة في دعوى الاتّفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلميّ في الجملة، المؤيّدة لما ادّعاه الشيخ والعلاّمة.
وإذا ضممت إلى ذلك (قرائن) كلّه ذهاب معظم الأصحاب بل كلّهم ـ عدا السيّد وأتباعه ـ من زمان الصدوق إلى زماننا هذا، إلى حجّيّة الخبر الغير العلميّ، حتّى أنّ الصدوق تابع في التصحيح والردّ لشيخه ابن الوليد، وأنّ ما صحّحه (ابن ولد، خبر را) فهو صحيح وأنّ ما ردّه فهو مردود ـ كما صرّح به في صلاة الغدير، وفي الخبر الذي رواه في العيون عن كتاب الرحمة ـ ، ثمّ ضممت إلى ذلك (قرائن) ظهور عبارة أهل الرجال في تراجم كثير من الرواة في كون العمل بالخبر الغير العلميّ مسلّما عندهم (علماء شیعه)، مثل قولهم: فلان لا يعتمد على ما ينفرد به، وفلان مسكون (سکوت شده) في روايته، وفلان صحيح الحديث، والطعن في بعض بأنّه يعتمد الضعفاء والمراسيل، و غير ذلك، وضممت إلى ذلك (قرائن) ما يظهر من بعض أسئلة الروايات السابقة: من أنّ العمل بالخبر الغير العلميّ كان مفروغا عنه عند الرواة، تعلم علما يقينيّا صدق ما ادّعاه الشيخ من إجماع الطائفة.
والإنصاف: أنّه لم يحصل في مسألة يدّعى فيها (مساله) الإجماع من الإجماعات المنقولة والشهرة العظيمة (
«وحكى السيّد المحدّث الجزائري عمّن يثق به: أنّه قد زار السيّد صاحب المدارك المشهد الغروي، فزاره العلماء وزارهم إلاّ المولى عبد الله التستري، فقيل للسيّد في ذلك، فاعتذر بأنّه لا يرى العمل بأخبار الآحاد فهو (تسری) مبدع، ونقل في ذلك رواية مضمونها: أنّ من زار مبدعا فقد خرّب الدين.
وهذه حكاية عجيبة لا بدّ من توجيهها، كما لا يخفى على من اطّلع على طريقة المولى المشار إليه ومسلكه في الفقه، (توجیه: ایشان اوایل علمی خود عمل نمیکردند و بعد از رسیدن به بلوغ علمی، عمل میکردند) فراجع) والأمارات الكثيرة الدالّة على العمل، ما حصل في هذه المسألة، فالشاكّ في تحقّق الإجماع في هذه المسألة لا أراه (شاک) يحصل له الإجماع في مسألة من المسائل الفقهيّة، اللهمّ إلاّ في ضروريّات المذهب.
لكنّ الإنصاف: أنّ المتيقّن من هذا كلّه الخبر المفيد للاطمئنان، لا مطلق الظنّ. ولعلّه (حجیت مفید اطمینان) مراد السيّد من العلم كما أشرنا إليه آنفا. بل ظاهر كلام بعض احتمال أن يكون مراد السيّد قدسسره من خبر الواحد غير مراد الشيخ قدسسره.
قال الفاضل القزويني في لسان الخواصّ ـ على ما حكي عنه ـ : إنّ هذه الكلمة أعني خبر الواحد ـ على ما يستفاد من تتبّع كلماتهم ـ تستعمل في ثلاثة معان:
أحدها: الشاذّ النادر الذي لم يعمل به (شاذ نادر) أحد، أو ندر من يعمل به، ويقابله ما عمل به كثيرون.
الثاني: ما يقابل المأخوذ من الثّقات المحفوظ في الاصول المعمولة عند جميع خواصّ الطائفة، فيشمل الأوّل ومقابله.
الثالث: ما يقابل المتواتر القطعيّ الصدور، وهذا (اصطلاح سوم) يشمل الأوّلين وما يقابلهما.
ثمّ ذكر ما حاصله: أنّ ما نقل إجماع الشيعة على إنكاره (خبر واحد) هو الأوّل، وما انفرد السيّد قدسسره بردّه هو الثاني (خبر واحد ضعیف)، وأمّا الثالث، فلم يتحقّق من أحد نفيه (ثالث) على الإطلاق، انتهى.
وهو كلام حسن. وأحسن منه ما قدمناه: من أنّ مراد السيّد من العلم ما يشمل الظنّ الاطمئنانيّ، كما يشهد به التفسير المحكيّ عنه للعلم، بأنّه: ما اقتضى سكون النفس، والله العالم.