ثمّ إنّه يمكن أن يكون الشبهة التي ادّعى العلاّمة قدسسره حصولها (شبهه) للسيّد وأتباعه، هو: زعم الأخبار التي عمل بها الأصحاب ودوّنوها في كتبهم محفوفة عندهم بالقرائن، أو أنّ من قال من شيوخهم بعدم حجّيّة أخبار الآحاد أراد بها مطلق الأخبار، حتّى الأخبار الواردة من طرق أصحابنا مع وثاقة الراوي، أو أنّ مخالفته لأصحابنا في هذه المسألة لأجل شبهة حصلت له، فخالف المتّفق عليه بين الأصحاب.
ثمّ إنّ دعوى الإجماع على العمل بأخبار الآحاد، وإن لم نطّلع عليها (دعوی اجماع) صريحة في كلام غير الشيخ وابن طاوس والعلاّمة والمجلسي قدّست أسرارهم، إلاّ أنّ هذه الدعوى منهم مقرونة بقرائن تدلّ على صحّتها (اخبار آحاد) وصدقها، فخرج عن الإجماع المنقول بخبر الواحد المجرّد عن القرينة، ويدخل في المحفوف بالقرينة؛ وبهذا (ملاحظه) الاعتبار يتمسّك به (دعوی) على حجّيّة الأخبار.
بل السيّد قدسسره قد اعترف في بعض كلامه المحكيّ ـ كما يظهر منه ـ بعمل الطائفة بأخبار الآحاد، إلاّ أنّه يدّعي أنّه لمّا كان من المعلوم عدم عملهم بالأخبار المجرّدة كعدم عملهم بالقياس، فلا بدّ من حمل موارد عملهم على الأخبار المحفوفة.
قال في الموصليّات على ما حكي عنه في محكيّ السرائر:
إن قيل: أليس شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار التي رووها (اخبار را) عن ثقاتهم وجعلوها العمدة والحجّة في الأحكام، حتّى رووا عن أئمّتهم عليهمالسلام في ما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح: أن يؤخذ منه (خبر) ما هو أبعد من قول العامّة، وهذا يناقض ما قدّمتموه.
قلنا: ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع عليها (امور) بما هو مشتبه وملتبس مجمل، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّي إلى العلم، وكذلك نقول في أخبار الآحاد، انتهى المحكيّ عنه.
وهذا الكلام ـ كما ترى ـ اعتراف بما يظهر منه (کلام) عمل الشيوخ بأخبار الآحاد، إلاّ أنّه قدسسره ادّعى معلوميّة خلافه من مذهب الإماميّة، فترك هذا الظهور أخذا بالمقطوع، ونحن نأخذ بما ذكره أوّلا؛ لاعتضاده بما يوجب الصدق، دون ما ذكره أخيرا؛ لعدم ثبوته إلاّ من قبله، وكفى بذلك موهنا، بخلاف الإجماع المدّعى من الشيخ والعلاّمة؛ فإنّه معتضد بقرائن كثيرة تدلّ على صدق مضمونه (ادعا) وأنّ الأصحاب عملوا بالخبر الغير العلميّ في الجملة.
فمن تلك القرائن: ما ادّعاه الكشّيّ، من إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عن جماعة؛ فإنّ من المعلوم أنّ معنى التصحيح المجمع عليه هو عدّ خبره صحيحا بمعنى عملهم به (روایت)، لا القطع بصدوره (روایت)؛ إذ الإجماع وقع على التصحيح لا على الصحّة، مع أنّ الصحّة عندهم ـ على ما صرّح به غير واحد ـ عبارة عن الوثوق والركون، لا القطع واليقين.
منها (قرائن): دعوى النجاشيّ أنّ مراسيل ابن أبي عمير مقبولة عند الأصحاب. وهذه العبارة تدلّ على عمل الأصحاب بمراسيل مثل ابن أبي عمير، لا من أجل القطع بالصدور، بل لعلمهم بأنّه (ابن ابی عمیر) لا يروي أو لا يرسل إلاّ عن ثقة؛ فلو لا قبولهم لما يسنده الثقة إلى الثقة لم يكن وجه لقبول مراسيل ابن أبي عمير الذي لا يروي إلاّ عن الثقة.
والاتّفاق المذكور قد ادّعاه الشهيد في الذكرى أيضا. وعن كاشف الرموز تلميذ المحقّق: أنّ الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي.
ومنها: ما ذكره ابن إدريس ـ في رسالة خلاصة الاستدلال التي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ـ في مقام دعوى الإجماع على المضايقة، وأنّها (مضایقه) ممّا أطبقت عليه الإماميّة إلاّ نفر يسير من الخراسانيّين، قال في مقام تقريب الإجماع:
إنّ ابني بابويه والأشعريّين: كسعد بن عبد الله وسعد بن سعد ومحمّد بن عليّ بن محبوب، والقمّيين أجمع: كعليّ بن إبراهيم ومحمّد بن الحسن بن الوليد، عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضايقة؛ لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق برواته، انتهى.
فقد استدلّ على مذهب الإماميّة: بذكرهم لأخبار المضايقة وذهابهم إلى العمل برواية الثقة، فاستنتج من هاتين المقدّمتين ذهابهم إلى المضايقة.
وليت شعري: إذا علم ابن إدريس أنّ مذهب هؤلاء ـ الذين هم أصحاب الأئمّة عليهمالسلام، ويحصل العلم بقول الإمام عليهالسلام من اتّفاقهم ـ وجوب العمل برواية الثقة وأنّه لا يحلّ ترك العمل بها (خبر واحد)، فكيف تبع السيّد في مسألة خبر الواحد؟
إلاّ أن يدّعى أنّ المراد بالثقة من يفيد قوله القطع، وفيه ما لا يخفى. أو يكون مراده ومراد السيّد قدسسرهما من الخبر العلميّ ما يفيد الوثوق والاطمئنان لا ما يفيد اليقين، على ما ذكرناه سابقا في الجمع بين كلامي السيّد والشيخ قدسسرهما.