درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۵: اصول عملیه ۲

 

ـ ٢ ـ

القاعدة العمليّة الثانوية

وقد انقلبت بحكم الشارع تلك القاعدة العملية الأساسية إلى قاعدةٍ عمليةٍ ثانوية ، وهي أصالة البراءة القائلة بعدم وجوب الاحتياط.

والسبب في هذا الانقلاب : أنّا علمنا عن طريق البيان الشرعيّ أنّ الشارع لايهتمّ بالتكاليف المحتملة إلى الدرجة التي تُحتِّم الاحتياط على المكلّف ، بل يرضى بترك الاحتياط.

والدليل على ذلك : نصوص شرعية متعدّدة ، من أشهرها النصّ النبويّ القائل : «رُفع عن امّتي ما لا يعلمون» (١) ، بل استدلّ ببعض الآيات على ذلك ، كقوله تعالى : ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢). فإنّ الرسول يُفهَم كمثالٍ على البيان والدليل ، فتدلّ الآية على أنّه لا عقاب بدون دليل ، وهكذا أصبحت القاعدة العملية هي عدم وجوب الاحتياط بدلاً عن وجوبه ، وأصالة البراءة شرعاً بدلاً عن أصالة الاشتغال عقلاً.

وتشمل هذه القاعدة العملية الثانوية موارد الشكّ في الوجوب وموارد الشكّ في الحرمة على السواء ؛ لأنّ النصّ النبويّ مطلق ، ويسمَّى الشكّ في الوجوب

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٥ : ٣٦٩ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث الأول. ومتن الحديث كالتالي : «رفع عن امتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، و...»

(٢) الإسراء : ١٥

بـ «الشبهة الوجوبية» ، والشكّ في الحرمة ب «الشبهة التحريمية».

كما تشمل القاعدة أيضاً الشكّ مهما كان سببه ؛ ولأجل هذا نتمسّك بالبراءة إذا شككنا في التكليف ، سواء نشأ شكّنا في ذلك من عدم وضوح أصل جعل الشارع للتكليف ، أو من عدم العلم بتحقّق موضوعه.

ومثال الأوّل : شكّنا في وجوب صلاة العيد ، أو في حرمة التدخين ، ويسمّى بالشبهة الحكمية.

ومثال الثاني : شكّنا في وجوب الحجّ لعدم العلم بتوفّر الاستطاعة ، مع علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الحجّ على المستطيع [ويسمّى بالشبهة الموضوعيّة].

وإن شئت قلت : إنّ المكلّف في الشبهة الحكمية يشكّ في الجعل ، وفي الشبهة الموضوعية يشكّ في المجعول ، وكلّ منهما مجرىً للبراءة شرعاً.

ـ ٣ ـ

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

تمهيد :

قد تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر إلى مكّة ، وقد تشكّ في سفره ، لكنّك تعلم على أيِّ حالٍ أنّ أحد أخويك (الأكبر ، أو الأصغر) قد سافر فعلاً إلى مكّة ، وقد تشكّ في سفرهما معاً ولا تدري هل سافر واحد منهما إلى مكّة ، أوْ لا؟

فهذه حالات ثلاث ، ويطلق على الحالة الاولى اسم «العلم التفصيلي» ؛ لأنّك في الحالة الاولى تعلم أنّ أخاك الأكبر قد سافر إلى مكّة ، وليس لديك في هذه الحقيقة أيُّ تردّدٍ أو غموض ، فلهذا كان العلم تفصيلياً.

ويطلق على الحالة الثانية اسم «العلم الإجمالي» ؛ لأنّك في هذه الحالة تجد في نفسك عنصرين مزدوجين : أحدهما عنصر الوضوح ، والآخر عنصر الخفاء ، فعنصر الوضوح يتمثَّل في علمك بأنّ أحد أخويك قد سافر فعلاً ، فأنت لا تشكّ في هذه الحقيقة. وعنصر الخفاء والغموض يتمثّل في شكِّك وتردّدك في تعيين هذا الأخ ، ولهذا تسمّى هذه الحالة ب «العلم الإجمالي» ، فهي علم ، لأنّك لا تشكّ في سفر أحد أخويك ، وهي إجمال وشكّ ، لأنّك لا تدري أيّ أخويك قد سافر. ويسمّى كلّ من سفر الأخ الأكبر وسفر الأصغر «طرفاً» للعلم الإجمالي ؛ لأنّك تعلم أنّ أحدهما لا على سبيل التعيين قد سافر بالفعل.

وأفضل صيغةٍ لغويةٍ تمثِّل هيكل العلم الإجماليّ ومحتواه النفسيّ بكلا عنصريه هي «إمّا وإمّا» ، إذ تقول في المثال المتقدِّم : «سافَرَ إمّا أخي الأكبر ، وإمّا

أخي الأصغر» فإنّ جانب الإثبات في هذه الصيغة يمثّل عنصر الوضوح والعلم ، وجانب التردّد الذي تصوّره كلمة «إمّا» يمثّل عنصر الخفاء والشكّ ، وكلّما أمكن استخدام صيغةٍ من هذا القبيل دلّ ذلك على وجود علمٍ إجماليٍّ في نفوسنا.

ويطلق على الحالة الثالثة اسم «الشكّ الابتدائي» ، أو «البدوي» ، أو «الساذج» ، وهو شكّ محض غير ممتزجٍ بأيِّ لونٍ من العلم ، ويسمّى بالشكّ الابتدائيّ أو البدوي تمييزاً له عن الشكّ في طرف العلم الإجمالي ؛ لأنّ الشكّ في طرف العلم الإجماليّ يوجد نتيجةً للعلم نفسه ، فأنت تشكّ في أنّ المسافر هل هو أخوك الأكبر ، أو الأصغر؟ نتيجةً لعلمك بأنّ أحدهما ـ لا على التعيين ـ قد سافر حتماً ، وأمّا الشكّ في الحالة الثالثة فيوجد بصورةٍ ابتدائية دون علمٍ مسبق.

وهذه الحالات الثلاث توجد في نفوسنا تجاه الحكم الشرعي ، فوجوب صلاة الصبح معلوم تفصيلاً ، ووجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة مشكوك شكّاً ناتجاً عن العلم الإجماليّ بوجوب الظهر أو الجمعة في ذلك اليوم ، ووجوب صلاة العيد مشكوك ابتدائيّ غير مقترنٍ بالعلم الإجمالي.

وهذه الأمثلة كلّها من الشبهة الحكمية ، ونفس الأمثلة يمكن تحصيلها من الشبهة الموضوعية ، فتكون : تارةً عالماً تفصيلاً بوقوع قطرة دمٍ في هذا الإناء ، واخرى عالماً إجمالاً بوقوعها في أحد إناءين ، وثالثةً شاكّاً في أصل وقوعها شكّاً بدوياً.

ونحن في حديثنا عن القاعدة العملية الثانوية التي قلّبت القاعدة العملية الأساسية كنّا نتحدّث عن الحالة الثالثة ، أي حالة الشكّ البدويّ الذي لم يقترن بالعلم الإجمالي.

والآن ندرس حالة الشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، أي الشكّ في الحالة الثانية من الحالات الثلاث السابقة ، وهذا يعني أنّنا درسنا الشكّ بصورته الساذجة ،

وندرسه الآن بعد أن نُضيف إليه عنصراً جديداً وهو العلم الإجمالي ، فهل تجري فيه القاعدة العملية الثانوية كما كانت تجري في موارد الشكّ البدويّ ، أوْ لا؟

منجّزية العلم الإجمالي :

وعلى ضوء ما سبق يمكننا تحليل العلم الإجماليّ إلى علمٍ بأحد الأمرين ، وشكٍّ في هذا ، وشكٍّ في ذاك.

ففي يوم الجمعة نعلم بوجوب أحد الأمرين «صلاة الظهر ، أو صلاة الجمعة» ، ونشكّ في وجوب الظهر كما نشكّ في وجوب الجمعة ، والعلم بوجوب أحد الأمرين بوصفه علماً تشمله قاعدة حجّية القطع التي درسناها في بحثٍ سابق (١) ، فلا يسمح لنا العقل لأجل ذلك بترك الأمرين معاً : الظهر والجمعة ؛ لأنّنا لو تركناهما معاً لخالفنا علمنا بوجوب أحد الأمرين ، والعلم حجّة عقلاً في جميع الأحوال ، سواء كان إجمالياً أو تفصيلياً.

ويؤمن الرأي الاصوليّ السائد في مورد العلم الإجمالي لا بثبوت الحجّية للعلم بأحد الأمرين فحسب ، بل بعدم إمكان انتزاع هذه الحجّية منه أيضاً واستحالة ترخيص الشارع في مخالفته بترك الأمرين معاً ، كما لا يمكن للشارع أن ينتزع الحجّية من العلم التفصيليّ ويرخّص في مخالفته ، وفقاً لما تقدم في بحث القطع (٢) من استحالة صدور الردع من الشارع عن القطع.

وأمّا كلّ واحدٍ من طرفي العلم الإجمالي ـ أي وجوب الظهر بمفرده ووجوب الجمعة بمفرده ـ فهو تكليف مشكوك وليس معلوماً.

__________________

(١) تحت عنوان : العنصر المشترك بين النوعين

(٢) تحت عنوان : العنصر المشترك بين النوعين

وقد يبدو لأوّل وهلةٍ أنّ بالإمكان أن تشمله القاعدة العملية الثانوية ، أي أصالة البراءة النافية للاحتياط في التكاليف المشكوكة ؛ لأنّ كلاًّ من الطرفين تكليف مشكوك.

ولكنّ الرأي السائد في علم الاصول يقول بعدم إمكان شمول القاعدة العملية الثانوية لطرف العلم الإجمالي ، بدليل أنّ شمولها لكلا الطرفين معاً يؤدّي إلى براءة الذمّة من الظهر والجمعة وجواز تركهما معاً ، وهذا يتعارض مع حجّية القطع بوجوب أحد الأمرين ؛ لأنّ حجّية هذا القطع تفرض علينا أن نأتي بأحد الأمرين على أقلّ تقدير ، فلو حكم الشارع بالبراءة في كلٍّ من الطرفين لكان معنى ذلك الترخيص منه في مخالفة العلم ، وهو مستحيل كما تقدم.

وشمول القاعدة لأحد الطرفين دون الآخر وإن لم يؤدِّ إلى الترخيص في ترك الأمرين معاً لكنّه غير ممكنٍ أيضاً ؛ لأنّنا نتساءل حينئذٍ : أيّ الطرفين نفترض شمول القاعدة له ونرجِّحه على الآخر؟ وسوف نجد أنَّا لا نملك مبرِّراً لترجيح أيٍّ من الطرفين على الآخر ؛ لأنّ صلة القاعدة بهما واحدة.

وهكذا ينتج عن هذا الاستدلال القول بعدم شمول القاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة» لأيّ واحدٍ من الطرفين ، ويعني هذا : أنّ كلّ طرفٍ من أطراف العلم الإجماليّ يظلّ مندرجاً ضمن نطاق القاعدة العملية الأساسية القائلة بالاحتياط ما دامت القاعدة الثانوية عاجزةً عن شموله.

وعلى هذا الأساس ندرك الفرق بين الشكّ البدويّ والشكّ الناتج عن العلم الإجمالي ، فالأوّل يدخل في نطاق القاعدة الثانوية وهي أصالة البراءة ، والثاني يدخل في نطاق القاعدة الأوّلية وهي أصالة الاحتياط.

وفي ضوء ذلك نعرف أنّ الواجب علينا عقلاً في موارد العلم الإجماليّ هو الإتيان بكلا الطرفين ، أي الظهر والجمعة في المثال السابق ؛ لأنّ كلاًّ منهما داخل في