درس دروس في علم الاصول - الحلقة الاولی

جلسه ۲۲: دلیل عقلی ۲

 

بالعناوين والصور الذهنية ، لا بالواقع الخارجي مباشرةً ، فيكفي التعدّد في العناوين والصور لارتفاع المحذور ، وهذا معناه جواز اجتماع الأمر والنهي.

وقد يقال : إنّ الأحكام وإن كانت تتعلّق بالعناوين والصور الذهنية ولكنّها لا تتعلّق بها بما هي صور ذهنية ، إذ من الواضح أنّ المولى لا يريد الصورة ، وإنّما تتعلّق الأحكام بالصور بما هي معبّرة عن الواقع الخارجيّ ومرآة له ، وحيث إنّ الواقع الخارجيّ واحد فيستحيل أن يجتمع عليه الوجوب والحرمة ولو بتوسّط عنوانين وصورتين.

وعلى هذا الأساس يقال : إنّ تعدّد العناوين إن كان ناتجاً عن تعدّد الواقع الخارجيّ وكاشفاً عن تكثّر الوجود جاز أن يتعلّق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر ، وإن كان مجرّد تعددٍ في عالم العناوين والصور الذي هو الذهن فلا يسوغ ذلك.

هل تستلزم الحرمة البطلان؟

إنّ صحّة العقد معناها : أن يترتّب عليه أثره الذي اتّفق عليه المتعاقدان ، ففي عقد البيع يعتبر البيع صحيحاً ونافذاً إذا ترتّب عليه نقل ملكية السلعة من البائع إلى المشتري ، ونقل ملكية الثمن من المشتري إلى البائع ، ويعتبر فاسداً وباطلاً إذا لم يترتّب عليه ذلك.

وبديهيّ أنّ العقد لا يمكن أن يكون صحيحاً وباطلاً في وقتٍ واحد ، فإنّ الصحّة والبطلان متضادّان كالتضادّ بين الوجوب والحرمة.

والسؤال هو : هل يمكن أن يكون العقد صحيحاً وحراماً؟

ونجيب على ذلك بالإيجاب ، إذ لا تضادّ بين الصحة والحرمة ، ولا تلازم بين الحرمة والفساد ؛ لأنّ معنى تحريم العقد منع المكلف من إيجاد البيع ، ومعنى صحّته أنّ المكلّف إذا خالف هذا المنع والتحريم وباع ترتّب الأثر على بيعه وانتقلت الملكية من

البائع إلى المشتري ، ولا تنافي بين أن يكون إيجاد المكلّف للبيع مبغوضاً للشارع وممنوعاً عنه وأن يترتّب عليه الأثر في حالة صدوره من المكلّف ، كالظهار فإنّه ممنوع شرعاً ولكن لو وقع لترتّب عليه أثره.

ومثال ذلك في حياتنا الاعتيادية : أنّك قد لا تريد أن يزورك فلان وتبغض ذلك أشدّ البغض ، ولكن إذا اتّفق وزارك ترى لزاماً عليك أن ترتّب الأثر على زيارته وتقوم بضيافته.

وهكذا نعرف أنّ النهي عن المعاملة ـ أي عقد البيع ونحوه ـ لا يستلزم فسادها ، بل يتّفق مع الحكم بصحة العقد في نفس الوقت ، خلافاً لعددٍ من الاصوليّين (١) القائلين بأنّ النهي عن المعاملة يقتضي بطلانها.

وكما يتعلّق التحريم بالعقد والمعاملة كذلك قد يتعلّق بالعبادة ، كتحريم صوم يوم العيد ، أو صلاة الحائض مثلاً ، وهذا التحريم يقتضي بطلان العبادة خلافاً للتحريم في المعاملة ؛ وذلك لأنّ العبادة لا تقع صحيحةً إلاّإذا أتى بها المكلّف على وجهٍ قربي ، وبعد أن تصبح محرَّمةً لا يمكن قصد التقرّب بها ؛ لأنّ التقرّب بالمبغوض وبالمعصية غير ممكنٍ فتقع باطلة.

__________________

(١) كالشهيد الأول في القواعد والفوائد ١ : ١٩٩ ، قاعدة [٥٧]. والفاضل التوني في الوافية : ١٠١

العلاقات القائمة بين الحكم وموضوعه

الجعل والفعلية :

حين حكمت الشريعة بوجوب الحجّ على المستطيع وجاء قوله تعالى : ﴿وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إليْهِ سَبيلاً) (١) أصبح الحجّ من الواجبات في الإسلام ، وأصبح وجوبه حكماً ثابتاً في الشريعة. ولكن إذا افترضنا أنّ المسلمينَ وقتئذٍ لم يكن فيهم شخص مستطيع تتوفّر فيه خصائص الاستطاعة شرعاً فلا يتوجّه وجوب الحجّ إلى أيّ فردٍ من أفراد المسلمين ؛ لأنّهم ليسوا مستطيعين ، والحجّ إنّما يجب على المستطيع ، أي أنّ وجوب الحجّ لا يثبت في هذه الحالة لأيِّ فردٍ بالرغم من كونه حكماً ثابتاً في الشريعة ، فإذا أصبح أحد الأفراد مستطيعاً اتّجه الوجوب نحوه وأصبح ثابتاً بالنسبة إليه.

وعلى هذا الضوء نلاحظ أنّ للحكم ثبوتين : أحدهما ثبوت الحكم في الشريعة ، والآخر ثبوته بالنسبة إلى هذا الفرد أو ذاك.

فحين حكم الإسلام بوجوب الحجّ على المستطيع في الآية الكريمة ثبت هذا الحكم في الشريعة ولو لم يكن يوجد مستطيع وقتئذٍ إطلاقاً ، بمعنى أنّ شخصاً لو سأل في ذلك الوقت ما هي أحكام الشريعة؟ لذكرنا من بينها وجوب الحجّ على المستطيع ، سواء كان في المسلمين مستطيع فعلاً أوْ لا ، وبعد أن يصبح هذا الفرد أو ذاك مستطيعاً يثبت الوجوب عليه.

ونعرف على هذا الأساس أنّ الحكم بوجوب الحجّ على المستطيع لا يتوقّف

__________________

(١) آل عمران : ٩٧

ثبوته في الشريعة بوصفه حكماً شرعياً إلاّعلى تشريعه ، وجعله من قبل الله تعالى ، سواء كانت [الاستطاعة] متوفِّرةً في المسلمين فعلاً أوْ لا.

وأمّا ثبوت وجوب الحجّ على هذا المكلّف أو ذاك فيتوقّف ـ إضافةً إلى تشريع الله للحكم وجعله له ـ على توفّر خصائص الاستطاعة في المكلّف. والثبوت الأوّل للحكم ـ أي ثبوته في الشريعة ـ يسمّى بالجعل «جعل الحكم». والثبوت الثاني للحكم ـ أي ثبوته على هذا المكلّف بالذات أو ذاك ـ يسمّى بالفعلية «فعلية الحكم» ، أو المجعول ، فجعل الحكم معناه تشريعه من قبل الله ، وفعلية الحكم معناها ثبوته فعلاً لهذا المكلّف أو ذاك.

موضوع الحكم :

وموضوع الحكم مصطلح اصوليّ نريد به مجموع الأشياء التي تتوقّف عليها فعلية الحكم المجعول بمعناها الذي شرحناه ، ففي مثال وجوب الحجّ يكون وجود المكلّف المستطيع موضوعاً لهذا الوجوب ؛ لأنّ فعلية هذا الوجوب تتوقّف على وجود مكلّفٍ مستطيع.

ومثال آخر : حكمت الشريعة بوجوب الصوم على كلّ مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ إذا هلَّ عليه هلال شهر رمضان ، وهذا الحكم يتوقّف ثبوته الأوّل على جعله شرعاً ، ويتوقّف ثبوته الثاني ـ أي فعليّته ـ على وجود موضوعه ، أي وجود مكلّفٍ غير مسافرٍ ولا مريضٍ وهلَّ عليه هلال شهر رمضان ، فالمكلّف وعدم السفر وعدم المرض وهلال شهر رمضان هي العناصر التي تكوّن الموضوع الكامل للحكم بوجوب الصوم.

وإذا عرفنا معنى موضوع الحكم استطعنا أن ندرك أنّ العلاقة بين الحكم والموضوع تشابه ببعض الاعتبارات العلاقة بين المسبَّب وسببه كالحرارة والنار ،

فكما أنّ المسبَّب يتوقّف على سببه ، كذلك الحكم يتوقّف على موضوعه ؛ لأنّه يستمد فعليّته من وجود الموضوع ، وهذا معنى العبارة الاصولية القائلة : «إنّ فعليّة الحكم تتوقّف على فعليّة موضوعه» ، أي أنّ وجود الحكم فعلاً يتوقّف على وجود موضوعه فعلاً.

وبحكم هذه العلاقة بين الحكم والموضوع يكون الحكم متأخّراً رتبةً عن الموضوع ، كما يتأخّر كلّ مسبَّبٍ عن سببه في الرتبة.

وتوجد في علم الاصول قضايا تُستنتج من هذه العلاقة وتصلح للاشتراك في عمليات الاستنباط.

فمن ذلك : أنّه لا يمكن أن يكون موضوع الحكم أمراً مسبَّباً عن الحكم نفسه ، ومثاله : العلم بالحكم فإنّه مسبّب عن الحكم ؛ لأنّ العلم بالشيء فرع الشيء المعلوم ، ولهذا يمتنع أن يكون العلم بالحكم موضوعاً لنفسه ، بأن يقول الشارع : أحكم بهذا الحكم على مَن يعلم بثبوته له ؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى الدور.